عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 12-03-2010, 03:51 AM   #4
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

الرؤية الثالثة

العمل .. فنيات ورؤى

العمل الذي بين يدي ّ متضار َبٌ في الحكم عليه بين من يراه قصة ومن يراه خاطرة ومن يراه مقالاً أدبيًا ، وإن كنت أميل إلى الأول ؛ فقد اكتملت فيه عناصر العمل من حيث الرؤية ، الحبكة ، السرد ، الحدث ...وإن غاب عنه الحوار غيابًا تامًا ولعل غياب الحوار كان له ما يبرره إذ محور حديثه اللقطاء وهـُـم مهــمَلون في حياتهم فآثر أن يزيد قتامة صورتهم بأن يجعلهم من القصة كذلك مهــمــــَلين .

الحدث عادي للغاية لكن تناول كاتبنا الراحل له لم يكن كذلك أبدًا ، فقد جعل يفلسف كل شيء فلسفة الحزن والبؤس ويــُلبسها لبسة البشر حتى كأنه يقول إن الحزن قد انقطع عن جميع خلق الله حتى صار حكرًا على الإنسان فإن استحيا غير الإنسان البوح به تظاهر بالحديث عن نفسه تعريضًا بالإنسان .

ولنبدأ جولتنا مع عربة اللقطاء :
1- التشبيهات والأساليب البلاغية *غير أنها مُــســَوَّرة بألواح من الخشب كجوانب النعش تــُمسـِك ُ مــَن ْ فيها من الصغار أن يتدحرجوا منها التشبيه كان في محله الصحيح ، فالنعش للاموات وهؤلاء أحياء لكنهم في قلوبهم ومشاعرهم وقلوب ومشاعر الناس أموات.

ولو كانوا صغاراً لكان عزاؤهم أن لسان الأيام ممتد إليهم غير بعيد فيصيروا في عداد الأموات ، إلا أنهم واأسفاه صغار خطوا درجات البؤس سلمًا سلمًا فلا تسأل أيها القارئ عن أمد انقضاء ما هم فيه .

*صيد في شبكة لا أطفال في عربة
تشبيه ثان يناسب الحالة .

2 الرؤية :ويــُقصد بها فلسفة الشاعر في العمل أو الزاوية التي يرى القضية منها .
*الفكر في تخفيف العبء الذي تجعله يجعله أثقل عليك مما هو ، إذ يضيف إليه الهم ّ ، والهم ّ أثقل ما حملت ْ نفس ٌ ، فما دمت في العمل فلا تتوهمنّ الراحة ، فإن هذا يـُوهـــــِن القوة ويــَخذُلُ النشاط ويجلب السأم ؛ وإنما روح العمل في الصبر وإنما روح الصبر العزم .
هي رؤية واعية بمعنى الجد والهزل . إنه كاتب ما كتب الشعر إلا استنكافًا أن يقيــَّده الشاعر ، فنزل كبرياء الشعر يرجوه أن يجود بروحه عليه . الفكرة أن التفكير في الهم ّ هو نفسه همّ فكرة سليمة وقد أحسن البرهنة عليها . وهذه البرهنة تتمثل في موقف الحصانين في آخر العمل :
فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخــفــَتها التفتا معًا ، ثم جمعا رأسيهما يتحدثان !
*إنما هو النزوع إلى الحرية ، فإن لم تكن لك في ذاتها ، فلتكن لك في ذاتك ، وإذا تعذّرت اللذة عليك ، فاحتفظ بخيالها ، رؤية أبرزت فدرته على التحدث على لسان حالين مختلفين . وهنا تبدو حياديته في النص جزءًا هامًا في تماسك العمل .
*إن الدنيا شيء واحد في الواقع ؛ ولكن هذا الشيء الواحد هو في كل خيال دنيا وحدها
رؤية أظهرت كم هو رجل متأمل لما حوله كأنما الإنسانية قد فشلت في أن تجد من تودَع فيها فأودعت نفسها بداخله ودخائله.
*جاءوا بهم ينظرون الطبيعة والبحر والشمس ، فغفل الصغار عن ذلك كله وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأمهات ...
رؤية ثاقبة مفادها أن الإنسان لا ينظر إلى الأجمل وإنما إلى سبب الجمال المباشر . إنه يقول صراحة إنهم ما عانوا فقر مال بقدر ما عانوا جدب الأحاسيس وإن هؤلاء الأمهات التزاوير لو كنّ حقييقيات لما اشتاقوا إلى بحر إذ هم حينئذ يرون البحر أمهاتهم !

3- النهاية :
يبدو أن عملاً كذلك شوّق القارئ لما سوف تكون نهايته أترى هل يجد جادّ ٌ فيشفق الناس عليهم ؟ أم هل تراهم يتمردون ويفلحون أم ترى يهب سارق يسرق الحصانين ؟
إنما كان عنصر المفاجأة ذكيًا وحاضرًا أيما حضور وذلك عندما جعل النهاية كذلك :
فلما طاف بي النوم طتف كل ذلك بي ، فرأيتني في موضعي ذاك ، وأبصرت العربة قد وقفت ، وتحاور الأدهم والكميت فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخــفــَتها التفتا معًا ، ثم جمعا رأسيهما يتحدثان !
وكأنهما يهزءان بالأطفال أو كأنهما لا يصدقان أن تـــُرِكــَت لهم فرصة للحديث ولاحظ أنه لم يذكر ما تحدثا فيه .السخرية المبثوثة في العمل ....الأطفال صارا حديث من لايجد ما يتحدث فيه دلالة على سوء ما وصل حالهم إليه .
4- الأسلوب : بين الجد والسخرية يتربع كاتبنا الراحل ليقول إنه ما وجدت السخرية والجد إلا لتكونا علامة عليه وجناحين له فقط لا يجتمعان إلا فيه وإن اجتمعا في غيره هويا به إلى الأرض .

*ومن منهم إذا تألم سيذهب فيشكو لأبيه ...؟

* صيد في شبكة لا أطفال في عربة
*كانوا وساوس آباء وأمهات ...

*وكلتاهما تزوير للأم على

*واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة .....إلى أن تم العدد وخلا قفص الدجاج من الدجاج ....!


هذه نماذج من السخرية أشد وقعًا من ألف سوط ملتهبة وترى السخرية فعلت ما لا يفعله الجد .
وهنا نجد صياغة للفكرة بأسلوب فلسفي راق يعتمد على المشهد التراجيدي ويعمد بعد ذلك إلى تعميق الفكرة من خلال إحداث عنصر المفاجأة والتي تختلف فيها الأسس التي عليها يبني المتلقي فكرة السلوك المنطقي من قارئ لآخر وفقًا لطبيعة الموقف وهي تعكس قراءة سيكولوجية اجتماعية لواقع الفقر وتأثيره في السلوك الإنساني .وذلك في الأسطر الملونة باللون البرتقالي

*ومشى الأطفال بوجوه يتيمة ويقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمة مستكينة معترِفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالم إلا هذا الإحسان البخس القليل .

*جاءوا بهم ينظرون الطبيعة والبحر والشمس ، فغفل الصغار عن ذلك كله وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأمهات

4- حجم العمل :
جاء العمل لا ترى فيه افتعالاً ولا تكلفًا وإنما هي سجيته تتحدث أمامك والعمل لم يكن فيه ترهل ولا تداع ٍ أي أنه كان صغيرًا مختصرًا فلم يكمل الصفحة والنصف في الكتاب .. ولعل ذلك أقصر ما كتب في حياته كلها وأراه أقصر وأجمل ما كتب.


***
وإنك لتلاحظ أخي القارئ أن عدة أسطر قد اشتركت في أكثر من صفة ، فسطر واحد فيه الدلالة الرمزية جنبًا إلى جنب مع التماسك النصي والاستفهام الإنكاري وتجد سطرًا آخر أحسن فيه الكاتب التشبيه وشوّقك في الحدث . وتجد غيرهما سطرًا فيه
عالمية المعنى وعمومية الرؤية وكل هذا ليس تكلفًا قط وإنما هو تأكيد على ثراء العمل واتساع الدلالة وحسن توظيف الحقول الدلالية .. وهذا أمر لا يتفق لكل كاتب ولو اتفق لكلهم لقلت أجمل من اتفق في عمله ذلك هو مصطفى صادق الرافعي .
لا ينفي ذلك مآخذ وقع فيها تتمثل في هذا السطر :جلست ُ على ساحل الشاطبي في الإسكندرية أتأمل البحر وقد ارتفع الضحى ، ولكن النهار لدن ٌ ناعم ٌ رطيب ٌ كأن الفجر ممتد فيه إ لى الظهر .
وجاءت عربة اللقطاء فأشرفت على الساحل ، وكأنها في منظرها غمامة تتحرك، إذ تعلوها ظـُلةٌ كبيرة في لون الغيم . وهي كعربات النقل
. فما وجه الشبه بين عربة اللقطاء بشكله المثير للأسى والاشمئزز وبين الغمامة وما تفعله -بإذن الله - في النفس من جو شاعري جميل ؟!! وما بال نعومة الصبح ورطابته بهذا الواقع السئ . لعل البعد الشكلي خانه في غمرة اندفاعه فيما ذهب إليه وهكذا هو العمل من جماله يوقعك في الأخطاء .ونعم الخطأ ما كان جسرًا لألف درة مكنونة .


ولا أجد ختامًا ما أقوله إلا ما كررته من قبل وإني لواجد ٌ فيه أنسًا لي وعذرًا لك إن أطلت عليك عزيزي القارئ :
ختامًا رحم الله ابن طنطا (المحافظة التي ولد فيها )ولا أجد ما أقوله عنك وعن عملك إلا ما آثرت أن تأتي َ به من قول الشيخ محمد عبده رحمه الله : " لله ما أثمر أدبك ولله ما ضَـِمن َ لي قلبك ! لا أقارضك ثناء بثناء ،وأسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا للباطل وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل والسلام ".
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس