عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-02-2011, 03:08 PM   #28
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

تسليع الميدان العام

(1)

إن محاولة العديد من مفكري الغرب تفسير الأزمة التي شهدتها أواخر الستينات من القرن الماضي، قادتهم الى عمل (أنطونيو غرامشي) الشيوعي الإيطالي الذي سجنه الفاشيون بضع سنين والذي أراد أن يعرف سبب نجاة الرأسمالية الأوروبية بعد اشتعال حربين عالميتين واندلاع الثورة الروسية ونشوب الأزمة الاقتصادية الخ.

لقد ميَّز (غرامشي) بين البيئتين الروسية التي حدثت فيها الثورة البلشفية، وبين أوروبا التي لم تتعرض لثورات. وقد عزى ذلك لتطور الدولة والمجتمع المدني في الغرب، في حين كانت الدولة الروسية هشة والمجتمع المدني في روسيا بدائياً وهلامياً*1

فإن كانت الثورة في روسيا قد نجحت في طريقتها، فإنها لن تنجح في أي بلد أوروبي غربي، لتعقيد العلاقات بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم في الغرب الأوروبي ليس فرداً مستبداً بل صيغ معقدة من العلاقات يقابلها مجتمع مدني يشارك وينتقد ويحرس القيم التي تبقي الدولة واقفة.

شدد غرامشي على الأيديولوجية ومنحها منزلة مساوية لمنزلة (القسر المنظم) الذي تمارسه الدولة، فقد ظهرت في المجتمع المدني الرأسمالي المتقدم بنية إجماع متراتب، وهو إجماع يتصف بالسلاسة، والمرونة، والفاعلية. فالهيمنة التي تمارسها الدولة الأوروبية الغربية تفترض درجة معينة من الرضا، والتشارك، والتعاون.

فالمؤسسات من قبيل العائلة، وعلاقات المِلكية، والقانون تفاعلت مع المعايير غير الرسمية التي حكمت الزواج والعمل وأوقات الفراغ، لإنتاج مجتمع مدني برجوازي عَبَأ درجة مهمة من الإجماع.

(2)

كان عصر التنوير يَعِدُ بتحرير البشر من قبضة التقليد الميت، والتراتبية الاجتماعية والخرافة، ولكن انتهى به المطاف الى أن أخضع البشر لقوى جردتهم من قدرتهم على تكوين الأحكام المعيارية (Normative) أو جردتهم حتى من إدراك أن عليهم بلورة أحكام معيارية.

لقد تم ضخ ثقافة سوقية وأصبحت تلك الثقافة سلعة. لقد حُفِّز المجتمع الاستهلاكي الضخم الذي أعقب الحرب النموّ المتسارع ل (صناعة ثقافة) امتثالية وطامعة بالربح، ثقافة تتوخى الحد الأدنى من القاسم المُشترك الذي يجمع منتجاتها، ثقافة أفرغت كل شيء من محتواه.

اتفق (هربرت ماركوز) مع كل من (هوركهايمر) و (أدورنو) على أن صناعة الثقافة كانت تعمل بوصفها قوة مستقلة أكثر فأكثر. وإن دورها المباشر في (تسليع الحياة) يميل الى تسطيح كل شيء؛ لأنها تلتمس أدنى قاسم مشترك في محاولة منها للبيع قدر ما أمكن. فيتم بذلك احتواء البدائل الأخرى، وامتصاص منابع المعارضة المحتملة، فتضمر قوة الفكر المستقل الانعتاقية*2.

وبينما كانت العصور السابقة تستخدم الحريات المدنية، وحرية الكلام، والتفكير، والعقل، والضمير استخداماً مقوضاً وتحررياً، فإن المجتمع الصناعي المتقدم يستخدمها للإبقاء على الوضع القائم. وعندما تتلاشى البدائل، يصبح عدم الإذعان عقيماً وصعباً. ويقول ماركوز: عندما تتكثف الهيمنة، والاستغلال، واللاعدالة فإن صناعة الثقافة تجعل المقاومة مستحيلة تقريباً؛ لأنها تجعلها غير مرئية.

(3)

وصف ريتشارد سينيت سقوط الإنسان العام وزوال (الحميمية) من بين أفراد المجتمع، بأن وراءه ما تعززت فيه القيمة الفردية للحياة الخاصة. وإن الاهتمام المهووس بالأشخاص على حساب العلاقات الاجتماعية، وهذا يشبه المصفاة التي تفسد فهمنا العقلاني للمجتمع؛ فهو يحجب الأهمية المتزايدة للطبقة في المجتمعات الصناعية المتقدمة؛ ويقودنا الى النظر الى الجماعة على أنها بوح ذاتي متبادل، والى أن نبخس من قيمة علاقات الغرباء الجماعية، لا سيما تلك التي تحدث في المدن.

لقد كشف سينيت عن المفارقة المريرة المتمثلة في أن المجتمع الحميمي يجعل الحياة المدنية أمراً مستحيلاً. فالناس لا يستطيعون تطوير علاقاتهم مع الآخرين إذا عدّوها غير مهمة لكونها علاقات لا شخصية. لأن الحياة المدنية هي النشاط الذي يحمي الناس من بعضهم بعضا، ويتيح لهم مع ذلك أن يتمتعوا برفقة الآخر. فالعيش مع الناس لا يستلزم (معرفتهم). ولا يستلزم التأكد من أنهم (يعرفونك).*3

إن كتاب سينيت (سقوط الإنسان العام) نقدٌ ثاقب البصيرة بشكل لافت للفكرة الرائجة التي تفيد أن المجتمع المدني الذي ينظم حول الجماعة والحميمية يوفر بالضرورة بديلاً مناسباً من الضعف، والاغتراب، والوحدة. فمنطق الدفاع المحلي ضد عدوانية العالم الخارجي يغفل خبرة الإنسانية التي تؤكد أن الناس يتطورون عندما يجربون أشياء جديدة وناساً جدداً.

(4)

لقد هدد منطق شكل (التسليع الشمولي) بصهر العام بالخاص، معرضاً الديمقراطية بذلك للخطر. واكتسبت المسائل الاقتصادية الخاصة أهمية عامة عندما أنتجت أسواق السلع أسواقاً للأخبار، وعندما صار من غير الممكن الاستغناء عن المعلومات في التجارة. فأخذت الصحافة بالتطور، ولكن سرعان ما انضمت إليها المقاهي والصالونات، والمسارح، وجمعيات المتعلمين، ومواقع أخرى انتظمت حول تبادل المعلومات الحر.

ويتصرف المواطنون بصفتهم هيئة عامة عندما يتشاورون بصورة غير مقيدة ـ في ظل ظرف يضمن لهم حرية الاجتماع والارتباط، وحرية التعبير عن آرائهم ونشرها ـ في مسائل الصالح العام.

ويقف تسليع الميدان العام من وراء (أزمة مشروعية) نظام سياسي غير قادر على تقديم تبرير عقلاني لسلطة الدولة، وهو تبرير كان قادراً على تقديمه مرة. والقادة السياسيون يستعينون زيفاً بجمهور عام، لا من أجل المساعدة على صوغ السياسة، إنما هم يناورون لخلق دعم عابر. وإن العملية الطويلة من التشاور المتبادل، والتنوير، والنقاش التي ميزت الميدان العام في السابق قد تفككت وانسحقت، تحت وقع مطالب الدولة ووقع احتياجات السوق في المجتمع المدني.

يرى الكثير من علماء الاجتماع السياسي، أن الاندماج والشرعية من خلال التواصل (الاتصال)، لا من خلال الهيمنة، هو الحل الأمثل لإبقاء المجتمع المدني بعافية.



هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Antonio Gramsci, Selection from the Prison Notebooks of Antonio Gramsci, Edited and Translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith (New York: International Publishers 1971) p.238
*2ـ Herbert Marcuse, One- Dimensional Man: Studies in the Ideology of Advanced Industrial Society (Boston: Beacon Press 1966, pxvi
*3ـ Richard Sennet, The Fall of Public Man: On the Social Psychology of Capitalism (New York: Random House 1978) p.4

__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس