عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-12-2010, 01:12 AM   #25
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الثورة (المحدودة ذاتياً)

(1)

كانت النزعة الشديدة المناهضة للدولة، التي وسمت أدبيات المجتمع المدني المبكرة، ردَّ فعلٍ مفهوماً تماماً على ما تتصف به (الاشتراكية القائمة) من روتينية وبيروقراطية. وبنهاية السبعينات من القرن العشرين، كانت تصور المجتمع المدني في أوروبا الشرقية على أنه (ميداناً للنشاط الاجتماعي المستقل واللاسياسي ظاهرياً) الذي لا يسعى الى تحدي سيطرة الدولة على زمام السلطة الرئيسة، وقد حقق هذا عقداً ضمنياً بين تلك المنظمات وسلطات دولة الحزب الحاكم.

إن الفكرة القائلة إن نقابات العمال المستقلة، والحركات الاجتماعية الجديدة، والمنتديات المدنية، ومنظمات حقوق الإنسان، والدوائر الأخرى (للمجتمع المدني الاشتراكي) يمكن أن تصل الى تسوية مع الدولة هو قول يدل ضمناً الى إمكانية التفكير في المجتمع المدني بمعزل عن سلطة الدولة المباشرة، ويقر بأن مراكز السلطة المستقلة كانت تتطور في مجتمعات اشتراكية (ناضجة).

كانت الفائدة المجتناة من (النزعة الشمولية) قد أصبحت في الحقيقة إشكالية متزايدة. فمع غروب عقد الستينات، تعرضت قضيتان مركزيتان طرحهما منظرو النزعة الشمولية الى هجوم كاسح، تتمثل الأولى في أن العلاقات الاجتماعية الفردية تمت تذريتها (Atomized) بشكل يتعذر إصلاحه، والثانية هي أن الحياة الاجتماعية والسياسية المستقلة أمرٌ مُحَال.

وأن الفكرة المُبسطة القائلة إن المصالح المُستقلة لا يُمكن أن تُنَظَم في المجتمعات الاشتراكية، نُبذت تلك الفكرة حتى أن معاينة نماذج متسامحة كان ممكن أن يراها المراقب حتى في العهد الستاليني. وبعد مجيء (نيكيتا خروتشيف) وإتباعه لسياسة (شيوعية الغولاش) [وهي كناية للشوربة الهنغارية، وترمز الى غض النظر الذي اتبعه السوفييت والتهاون في مضايقة المجر بعد أحداث 1956، والتي قمعت فيها القوات السوفييتية ثورة المجر، فأُريد من تلك السياسة عدم تكرار ما حدث.]

(2)

بعد تلك الأحداث، لم تعد السياسة تدخل من الباب الأمامي لمنزل المواطن، واختفى دور المُحرض السياسي الذي كان الشيوعيون يرسلونه ويسمى (قارع الأبواب). وحل محله شاشة التلفزيون. ولكن التسييس الشمولي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. ولم يعد هناك مناقشات سياسية في العمل، فساعات العمل للعمل فقط، وبإمكان المواطن أن يفعل ما يريد في أوقات فراغه.

بدت الأحداث التي جرت في بولندا مصداقاً للمقاربة التعددية، وتوكيداً للتخمينات المبكرة حول تجذر مجتمع التنظيمات الوسيطة المدني. فحركة الاحتجاج الفاعلة في بولندا حفزت التطورات المبكرة، وكثفتها في نظرية المجتمع المدني الأولى في أوروبا الشرقية.

كان الناطقون باسم المعارضة البولندية، الذين لم يدفعوا الأمور الى أقصى حد، حريصين على عدم الظهور بمظهر التخريب السياسي. فبدلاً من مهاجمة سلطة الدولة مباشرة، نشد التنظيم الذاتي للمجتمع تقييد تجاوز دولة الحزب حدود ميدانها الخاص. فالمنظمون أولوا عنايتهم لنقابات العمال، وفِرق الطلبة، والجمعيات الثقافية، ولجان العمال، ومنشورات الأدب السرِّي [ نوع من النشاط ظهر بعد موت ستالين 1953]. وغيرها من النشاطات التي أصبحت مؤثرة فيما بعد.

(3)

أطلق (آدم مشنيك)*1 ما دعاه بالمعارضة (المحدودة ذاتياً) وتتلخص فكرته في تحسين تنظيم المجتمع في منظمات طوعية ليس لها علاقة بالدولة، وعدم الاصطدام بالدولة مباشرة، بل على العكس كان يطلب مساعدة الدولة، ولكن فكرته وأسلوبه هذا لم يأتي بنتائج ملموسة.

لكنه في جانب آخر نجح في التأكيد أن تطور المعارضة يجب أن يكون من خلال توجهها للرأي العام وليس للسلطات.

استطاعت نقابة تضامن البولندية من انتزاع اعتراف الدولة بها، حتى لو كان هذا الاعتراف مقترناً بتعهد من النقابات بأنها لا تسعى لانتزاع السلطة.

كانت تسود الفضاء الذهني أجواءٌ تشجع لتقدم مثل تلك النشاطات. فمقاومة الكنيسة للإلحاد الرسمي، ومقاومة القرى للتعاونيات، ومقاومة الطبقة المثقفة للرقابة، عبَّدت الطريق أمام العمال لتنظيم أنفسهم.

(4)

في بداية عهد (غورباتشوف) في الاتحاد السوفييتي، اعترفت جريدة (برافدا) الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفييتي، بوجود أكثر من ثلاثين ألفاً من المنظمات الطوعية غير الرسمية في الاتحاد السوفييتي، وقد تصاعد نشاط تلك المنظمات مع الشعور بأن غورباتشوف قد أطلق حملة إصلاحات، تدعو الى اعتبار الديمقراطية السياسية خطوة أولى في التجديد الاشتراكي لا يمكن تمييزها من الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية.

كان غورباتشوف يدرك أن خططه لا يمكن أن تتم إلا بتخفيف الرقابة وإطلاق الحريات، حتى يصل لما سماه (الغلاسنوست: أي سياسة الشفافية) والتي يمكن أن تؤدي الى (البيروسترويكا: إعادة البناء)...

هكذا أدركت الشعوب وقياداتها محدودية نشاط منظمات المجتمع المدني في ظل النظام الاشتراكي، فسواء كان انتشارها يتم انتزاعاً أو من خلال إرادة رأس الحكم فالأمران سيان، لا مكان لمنظمات المجتمع المدني الحقيقية في ظل النظم الاشتراكية (هذا رأي المؤلف).

هوامش:
*1ـ [ آدم مشنيك هذا هو من كبار من أوحى لفاليسا صاحب فكرة نقابة تضامن، وهو أيضاً من أوحى للقيادة البولندية للاشتراك مع (بوش) في غزو العراق]
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس