الموضوع: مقتطفات نقدية-
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 20-04-2009, 07:28 PM   #1
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي مقتطفات نقدية-

الحضور و الغياب في أنشودة المطر

لـ بدر شاكر السياب

تجليات أسلوبية






أنشودة المطر






عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،

أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ

وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ

يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر

كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ

كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،

والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛

فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء

ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء

كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !

كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ

وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر ...

وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،

ودغدغت صمت العصافير على الشجر

أنشودةُ المطر ...

مطر ...

مطر ...

مطر ...

تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ

تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ .

كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :

بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ

فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال

قالوا له : "بعد غدٍ تعودْ .. "

لا بدَّ أن تعودْ

وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ

في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ

تسفّ من ترابها وتشرب المطر ؛

كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك

ويلعن المياه والقَدَر

وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ .

مطر ..

مطر ..

أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟

بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،

كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ

سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،

كأنها تهمّ بالشروق

فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ .

أَصيح بالخليج : " يا خليجْ

يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى ! "

فيرجعُ الصّدى

كأنّه النشيجْ :

" يا خليج

يا واهب المحار والردى .. "

أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،

حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ

لم تترك الرياح من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ .

أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر

وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ،

عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين :

" مطر ...

مطر ...

مطر ...

وفي العراق جوعْ

وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ

لتشبع الغربان والجراد

وتطحن الشّوان والحجر

رحىً تدور في الحقول ... حولها بشرْ

مطر ...

مطر ...

مطر ...

وكم ذرفنا ليلة الرحيل ، من دموعْ

ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر ...

مطر ...

مطر ...

ومنذ أنْ كنَّا صغاراً ، كانت السماء

تغيمُ في الشتاء

ويهطل المطر ،

وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ

ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ .

مطر ...

مطر ...

مطر ...

في كل قطرة من المطر

حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ .

وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة

وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ

فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد

أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ

في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة !

مطر ...

مطر ...

مطر ...

سيُعشبُ العراق بالمطر ... "

أصيح بالخليج : " يا خليج ..

يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "

فيرجع الصدى

كأنَّه النشيج :

" يا خليج

يا واهب المحار والردى . "

وينثر الخليج من هِباته الكثارْ ،

على الرمال ، : رغوه الأُجاجَ ، والمحار

وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق

من المهاجرين ظلّ يشرب الردى

من لجَّة الخليج والقرار ،

وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ

من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى .

وأسمع الصدى

يرنّ في الخليج

" مطر ..

مطر ..

مطر ..

في كلّ قطرة من المطرْ

حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ .

وكلّ دمعة من الجياع والعراة

وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ

فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد

أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ

في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة . "

ويهطل المطرْ .









على الرغم من كثرة القراءات التي تناولتها بالتحليل و معالجتها بمختلف المستويات النقدية القديمة و الجديدة ، لا تزال مادة خصبة لاستنطاق مستويات أخرى في تجاور مكوناتها الذاتية و الموضوعية ، كالرمز الأسطوري و الإيحاء التاريخي و التوصيف النفسي… تحمل دلالات مختلفة في استحضار مدلولات حقيقية و خيالية ، بالإضافة إلى ذلك تتزاحم في بناء القصيدة العام جملة من العلاقات و القرائن التي يمكن أن نقف عندها في ضوء مقاربة أسلوبية التي تعتمد مستوى الاختيار الذي يقصد به لمسات لغوية معينة بغرض التعبير عن موقف معيّن كعملية انتقائية واعية في توظيف اللفظ أو التراكيب دون غيرها باعتبار هذا المستوى أقرب في التعامل مع الفكرة و نسج خيوطها بدلالات مقنعة و محدِّدة للغرض ، وأما المستوى الثاني فهو التركيب الذي يقوم بنظم الكلمات المختارة في النّص الأدبي معتمدا عمليتي الحضور للكلمات المختارة و الغياب للكلمات الأخرى المصفوفة في جدول الاختيار واختلاق علاقات موازية تنشئها ظاهرة التجاور و مراتب الانزياح أو الانحراف و العدول و الإبداع و هو ما يُستدل به على أدبيّة النّص كركن أو مبدأ الشعرية(1) الذي أشارإليه جون كوهن في كتابه”بنية اللغةالشعرية “
أنشودة المطر ، بحث تتوارى فيه قدرات كامنة تفجرها محددات لغوية و تراكيب غائرة في مستويات متعددة يربطها اختيارات متقاطعة في دلالاتها البعيدة و انتقاء الكلمات ، عند النظر إلى كلمتي “أنشودة”و”المطر” نكون أمام بوابة من الكلمات الخامدة تنتظر التفجير و التنقيب ، إذ كان بإمكان الشاعر أن يختار بدلا من أنشودة قصيدة أو شعر أو أي دال أو قرينة ، فهذا الاختيار مقصود في ذاته من حيث علاقته التعبيرية القابلة للاستثمار و التوظيف الحالي التام أو الإنّي(2) ، و لأنّ النشيد صوت قبل أن يكون كلاما توحيه دلالته على صورة النّداء و الاستنفار ، كما لها دلالة مغازلة الذات و الآخر و صورة التجاوب فيها تستند إلى صورة الانتقال ، و الانتظار ، و هناك توافق بين اختيار للأنشودة واختيار المطر من حيث اشتراكهما في اعتماد الصوت كنقطة تلاق ، و بذلك يكون الشاعر قد استحدث اشتقاقا خاصا في تقارب اللفظتين ،و تداعيات المعاني المختلفة من بداية القصيدة إلى نهايتها اقتضتها حالات مختلفة ، منها ما يتعلق بالشاعر و الأزمة التي مرّ بها في وطنه و منها ما تعلق ببلده العراق الذي شهد أزمات داخلية حادة ، و لعلّ مستوى الاختيار ينبني أساسا على هذه الفكرة و بذلك شكّل الشاعر قاموسا مميّزا لأنشودته الصارخة في عمقه ، تداولت على تجاذب تمفصلاتها أفعال و أسماء و روابط كثيرة ، ضمن جمل مختلفة من حيث صياغتها و سياقها الذي تتخلّله لازمة “مطر مطر مطر”، و يظل هذا الاسم الصوت يلاحق التراكيب كخواتم لها لتنبثق اشتقاقات أخرى محدثة إيقاعا مقصودا ، و بعملية بسيطة نحصي كلمة “مطر” أكثر من خمس و ثلاثين مرة و في كل موقع ترد بدلالة غير تلك التي صاغها القاموس ، في المقطع الأول مثلا :
أكاد اسمع النخيل يشرب المطر
و اسمع القرى تئن ، و المهاجرين
يصارعون بالمجاذيف و بالقلوع
عواصف الخليج و الرعود ، منشدين
مطر”
مطر
مطر
تتضح صورة الشرب / بعد عطش مصحوبة بالألم و الأنين و العواصف و الرعود و المنشدين ، و في المقطع الثاني:
وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان و الجراد
و تطحن الشوان و الحجر
رحى تدور في الحقول … حولها بشر
مطر
مطر
مطر
و هنا صورة المطر و صوته على غير عادته ، ارتبط بالجوع و الحرمان و صوت الرحى و ألم الانتظار و بعد المسافة النفسي بينها و بين اليقين الذي لم يتحقق ، و في المقطع الثالث :
انتقال مجال الصوت إلى حيز مختلف اختلقه الشاعر و أضافه و أضافه إلى حدود جديدة ، فالمطر هذه المرة يأخذ صورة الانتشار و صوت الطبيعة و صوت الأطفال :
كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم
وقطرة فقطرة تذوب في المطر
وكركر الأطفال في عرائش الكروم
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر
مطر
مطر
مطر

و في جدول القصيدة ماعن أخرى للصيغ التي تضمنت لفظة “مطر” ، قد لا يكون الشراب لمعنى الماء و العطش أو الإرواء و غيرها من المشتقات ، لأنّ في الخلف ، وراء هذا الظاهر أفواه و ما شابهها تنتظر الماء ، تنتظر المطر:
و في العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
من زهرة يربها الرفات بالندى
و اسمع الصدى
يرن في الخليج
مطر”
مطر
مطر
و على مستوى التركيب تتشكل القصيدة في جملة من الكلمات المختارة لخطاب القصيدة كنصّ أدبي تتوزّع فيه بين الحضور و الغياب ، إذ تشكل الأفعال معان متوازية في استحضار الأفكار و استحداث قرائن تثير فضول المتلقي و تفجر فيه طاقة التشاكل و التماثل في فعل الذات التي بُثها الشاعر في جملة من المفردات منتقاة بجمالية و فنيّة تنم عن مهارة في اختيارها لاستثارة المتلقي و تفعيل نشاطه الموازي و الفاعل ، يتضح ذلك في تنوّع الأساليب الموزعة بين مقاطع القصيدة ، بين خبرية تهدف إلى الإخبار و التوصيف و إعمال أسلوب الإعلام بشكل غير مباشر ، و ضمن السياق اللغوي فالعملية في مثل هذه المستويات تقتضي الوقوف على حدود بنية الجملة كتأليف أو تركيب له مقوماته الجمالية و الفنية(3) ، تتحقق به علاقات ضمنية :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
تتركب هاتان الجملتان من فاصلتين زمنيتين إعلاميتين استبداليتين بين حضور صورة الرؤية و هي تتشكل في حاضرها المتخيل و غياب صورة موازية موزعة بين أجزاء المكان البعيد المحذوف من جدول المقاربة و المتروك للمتلقي لاستحضاره بقرائن ذاتية :

يتبع ..
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار





آخر تعديل بواسطة المشرقي الإسلامي ، 26-07-2009 الساعة 07:49 PM.
المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس