عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-03-2010, 07:38 PM   #1
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي عربة اللقطاء ـ قصة لمصطفى صادق الرافعي، مع تعليق أحمد راشد

عربة اللقطاء

للكاتب الراحل مصطفى صادق الرافعي من كتابه الشهير الرائع (وحي القلم )
(1)

جلست ُ على ساحل الشاطبي في الإسكندرية أتأمل البحر وقد ارتفع الضحى ، ولكن النهار لدن ٌ ناعم ٌ رطيب ٌ كأن الفجر ممتد فيه إ لى الظهر .
وجاءت عربة اللقطاء فأشرفت على الساحل ، وكأنها في منظرها غمامة تتحرك، إذ تعلوها ظـُلةٌ كبيرة في لون الغيم . وهي كعربات النقل ، غير أنها مُــســَوَّرة بألواح من الخشب كجوانب النعش تــُمسـِك ُ مــَن ْ فيها من الصغار أن يتدحرجوا منها إذ هي تدرُج وتتقلقل .
ووقفت ْ في الشارع لتــُنزِل َ ركبها إلى شاطئ البحر ، أولئك ثلاثون صغيرًا من كل سفيج لقيط ومنبوذ ، وقد انكمشوا وتضاغطوا إذ لا يمكن أن تــُمــَط ّ العربة فتسعهم ، ولكن يمكن أن يــُكبـــَسوا ويتداخلوا حتى يشغل الثلاثة أو الأربعة منهم حيّز اثنين . ومن منهم إذا تألم سيذهب فيشكو لأبيه ...؟

وترى هؤلاء المساكين خليطًا ملتبِسًا يــُشعــِرُك اجتماعهم أنهم صيد في شبكة لا أطفال في عربة ، ويدلك منظرهم البائس الذليل أنهم ليسوا أولاد أمهات وآباء ، ولكنهم كانوا وساوس آباء وأمهات ...
***
هذه العربة يجرها جوادان أحدهما أدهم (الأسْــوَد) والآخر كُمــَيت (الأحمر) . فلما وقفت لوى الأدهم عنقه والتفت ينظر : أيفرغون العربة أم يزيدون عليها ...؟ أما الكميت فحرك رأسه وعَلَك َ لجامه كأنه يقول لصاحبه : إن الفكر في تخفيف العبء الذي تجعله يجعله أثقل عليك مما هو ، إذ يضيف إليه الهم ّ ، والهم ّ أثقل ما حملت ْ نفس ٌ ، فما دمت في العمل فلا تتوهمنّ الراحة ، فإن هذا يـُوهـــــِن القوة ويــَخذُلُ النشاط ويجلب السأم ؛ وإنما روح العمل في الصبر وإنما روح الصبر العزم .
ورآهم الأدهم ينزلون اللقطاء ، فاستخفه الطرب ، وحرك رأسه كأنما يسخر بالكميت وفلسفته ، وكأنما يقول له : إنما هو النزوع إلى الحرية ، فإن لم تكن لك في ذاتها ، فلتكن لك في ذاتك ، وإذا تعذّرت اللذة عليك ، فاحتفظ بخيالها ، فإنه وُصــْلــَتـُك بها إلى أن تمكن وتتسهل ؛ ولا تجعلن ّ كل طباعك طباعًا عاملة كادحة ، وإلا فأنت أداة ليس فيها إلا الحياة كما تريدك ، وليكن لك طابع شاعر مع هذه الطباع العاملة ، فتكون لك الحياة كما تريدك و كما تريدها.
إن الدنيا شيء واحد في الواقع ؛ ولكن هذا الشيء الواحد هو في كل خيال دنيا وحدها .
***
وفي العربة امرأتان تقومان على اللقطاء ؛ وكلتاهما تزوير للأم على هؤلاء الأطفال ِ المساكين ؛ فلما سكنت العربة انحدرتْ منهما واحدة وقامت الأخرى تــُناولــُهــَا الصغار قائلة ً : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة .....إلى أن تم العدد وخلا قفص الدجاج من الدجاج ....!
ومشى الأطفال بوجوه يتيمة ويقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمة مستكينة معترِفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالم إلا هذا الإحسان البخس القليل .
جاءوا بهم ينظرون الطبيعة والبحر والشمس ، فغفل الصغار عن ذلك كله وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأمهات ...
***
واكبدي أضنى الأسى كبدي ؛ فقد ضاق صدري بعد انفساحه ، ونالني وجع الفكر في هؤلاء التعساء ، وعـَرًتني منهم علة كدَس الحمّى في الدم . وانقلبت إلى مثواي والعربة وأهلها ومكانها وزمانها في رأسي .
فلما طاف بي النوم طتف كل ذلك بي ، فرأيتني في موضعي ذاك ، وأبصرت العربة قد وقفت ، وتحاور الأدهم والكميت فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخــفــَتها التفتا معًا ، ثم جمعا رأسيهما يتحدثان !
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار





آخر تعديل بواسطة عصام الدين ، 11-03-2010 الساعة 11:31 PM.
المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس