عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 03-02-2023, 09:13 AM   #2
رضا البطاوى
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2008
المشاركات: 5,987
إفتراضي

"على أن (ذلك الفتح العظيم والهدف الذي تحقق، والذي كان خطوة في سبيل توحيد قلوب الفريقين) لم يرق في عين البابا المقدس في روما، فغدا القيصر الألماني غرضا لسهامه ... أجل؛ إن ذلك الفتح الذي عجز البابا عن تحقيق أقل منه؛ على الرغم مما بذل من أقصى الجهد وكل وسيلة ممكنة، ومما أحتشد له من الحشود الهائلة، وبالأموال الطائلة، وما ضحى به من النفس زاعما أنها الحرب المقدسة في سبيل الله وبإسمه لتحرير (القبر المقدس)، إنما وضع البابا في موقف حرج، فكان ذلك بالذات ما أضرم نار المقت على أعلى مستويات الكنيسة للقيصر الألماني أشد ما يكون المقت إضراما ...
ولقد أنزل البابا بالقيصر وحده لعنة الطرد من رحمة الكنيسة وأعلن موت القيصر بالنسبة له، وأمر قواته الخاصة المعروفة بإسم (حملة المفاتيح) بالهجوم على صقلية – المملكة التي كانت تحت حكم القيصر – وإجبار مواطنيها على خلع القيصر والتحلل من يمين الولاء التي كانوا قد حلفوها لبيعته وطاعته؛ بل إن البابا ذهب إلى أبعد من ذلك حيث طلب إلى عدوه اللدود سرا: سلطان (الكفار) إن لا يعطي القيصر القبر المقدس، وبلغ الإنحطاط والتعري عن الكرامة الرسولية الذروة في تدبيره مع (فرسان المعبد) خطة لاغتيال القيصر، عند توجهه إلى نهر الأردن ليتعمد في مياهه؛ وكان السلطان المسلم بشخصه هو الذي أنقذ حياة قيصر الإمبراطورية الرومانية المقدسة، (فقد استاء لتلك الخيانة الوضيعة أشد الاستياء) وأرسل إلى القيصر الوثيقة التي تثبت الخيانة ممهورة بختم رئيس (فرسان المعبد).
وقبل إياب القيصر إلى الوطن، تجلى الغضب الكنسي والحنق على إبرام اتفاقية السلام والمساواة بين القيصر والسلطان في إعلان عقوبة الكنيسة على بيت المقدس بأن تصمت نواقيسها جميعا طالما بقى القيصر في رحابها، وعندما أخذ القيصر وجيشه في العودة أمطرهم رجال الكنيسة بوابل من الروث والبراز، قذفا بالمقاليع ... "
ويذكر المؤلف رسالة القيصر للسلطان كدليل على عمق الصلات بينهم وقوة العلاقات فيقول:
"وتصور رسالة الوداع التي كتبها القيصر وهو مبحر على متن سفينته، إلى الأمير – فخر الدين الذي كان ضيفا في بلاطه في صقلية موفدا من قبل السلطان، والذي كان في يافا من قبل يقتسم معه خيمته إبان قيامه بإدارة المباحثات بين العاهلين لإبرام اتفاقية السلام – مدى تعلق القيصر بأصدقائه العرب ...
لويس من قبيل الصدفة أن تلك الرسالة التي كتبها القيصر نفسه باللغة العربية التي تعلمها منذ صغره في موطنه صقلية إلى جانب اللغة اللاتينية – وقد تعلم بعضها من العرب الذين كانوا يعيشون في صقلية – إلى صديقه العربي، أعظم رسالة مؤثرة أبدعتها ريشة القيصر، لأنها وثيقة شخصية فاضت بها نفسه بعد الفراق، فأملت عليه البوح بمكنون العلائق البشرية، مما اعتاد أمثاله كتمانه:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
أزف الترحال بين أن قلوبنا ... * ... أبت الرحيل ففارقت أجسادنا
وهوت إلى كنف الصداقة عندكم ... * ... مأسورة، ثم استقرت عندنا
لا نريد أن نذكر ما نعاني من لواعج ما نكابد من الجوى، ولا ما يتملكنا من الحزن والأسى، ولا الشوق المستبد إلى ما نفتقده من الصحبة الممتعة والمجالسة المؤنسة للفخر، أطل الله عمره. والمعذرة أننا هنا لم نتمالك أنفسنا ففاضت وأفضت بمكنونها، وكيف ولست سوى رجل يضطرب فيه ما يضطرب، وهو يرى أنه فرد وحيد في هذه الدنيا، يحن إلى ساعات السكينة والصفاء، ولقاء الأصدقاء ... إن أسى الفراق قد أعقب السكينة وبلوغ الأرب، واليأس من التحين لمحادثتنا ... )
ثم يخاطب القيصر صديقه بلفظ المتكلم الفرد، تاركا صيغة الجمع التقليدية التي يتوسل بها جلالته، كاشفا بذلك كل غطاء يحجب ذاته عن صديقه، فيقول: (حينما فارقتني كنت في حالة، لو أن أحدا من البشر خيرني فيها بين البعد عنك أو الموت، لكنت أجبته ضارعا: لبيك؟ جد علي بهذه المكرمة!).
والحق أن موقف القيصر هذا، الذي يزن فيه المرء خصمه ويقدره حق قدره مجردا عن التجني ومشاعر البغضاء، رائيا فيه الإنسان، طالما يستحق أن يتصف بالإنسانية، فيحترمه لذلك؛ إنما هو خصيصة أخلاقيات المحاربين الجيرمان القدامى، ولقد ترسخت تلك الخصيصة وفرضت نفسها صورة قديمة من صور الفروسية خاصة في ألمانيا.
ليس الخيال وحده إذن هو الحافل بالشهادات القيمة في معاملة الخصم معاملة تخلو من التجني الظالم، وتقيمه موضوعيا، وتقدم له ما يستحق من احترام وتقدير، وتتيح للصداقة أن تنمو وتترعرع بين الخصوم.
ونرى الشاعر يرفع صوته معترضا على تعاليم الكنيسة التي تحكم بحياة من عمد أو بموت غير المعمدين، فيقول:
(أليست خطيئة أن المرء هكذا
يذبح البشر الذين لم يأتهم نبأ التعميد
كما تذبح الماشية؟!
بل إنني أعني أن هذه الخطيئة من أشد الكبائر
لأننا جميعا خلق الله؛
كافة الأجناس بألسنتها الاثنتين والسبعين
إنما هو الذي خلقها وسواها)."
ويبين المؤلف أن من شدة عمق الصلات بين الجانبين عبر أحد المشاركين ألأمان عن اعتذاره عن مشاركته فى الحملة الصليبية على دمياط معبرا عن امتنانه عما فعله السلطان الكامل وجنوده باطعام الصليبين يوميا رغم أنهم قتلوا الكثيرين من أهل البلد فقال :
"ومن الشواهد الدالة على هذا الموقف الأخلاقي أن أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية، بعد عودته إلى وطنه على نهر الراين لم يجد بدا من تحرير رسالة إلى سلطان مصر الملك الكامل يعبر فيها عن مشاعره تعبيرا مؤثرا، وقد ترسخت في مخيلته المذابح الفظيعة التي أبيد فيها أهل دمياط بمصر جميعهم، بناءا على أوامر البابا ومبعوثيه الكرادلة ورجالات الكنيسة وذلك بعد الاستيلاء على حصن دمياط بعد حصار طال ...
ولم يكن ذلك الألماني سوى عالم الفلسفة اللاهوتية (أوليفروس) من كولونيا على نهر الراين بألمانيا الذي بهره ما اكتشفه من المروءة والفروسية العربية التي أثبتها في شخصية السلطان الكامل، على الرغم من جميع الأهوال والفظائع التي اعتادها السلطان من قبل النصارى، ولقد سجل ذلك الشاهد ما لمسه بعينه كما لو كان حدثا سعيدا لا يمكن للعقل أن يتصوره، فقام بكتابة الرسالة التالية إلى السلطان الكامل عام 1221 م، والمعروف بصداقته للقيصر فريدريك الثاني، إذ أنه لم يقتص من الصليبيين العين بالعين والسن بالسن وإنما أطعمهم في مسغبتهم أربعة أيام طوالا، مرسلا إلى جيشهم المتضور جوعا كل يوم ثلاثين ألف رغيف، ومواد غذائية أخرى، كتب يقول:
(منذ تقادم العهود، لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود،
خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدا طاغية، ولا سيدا داهية، وإنما عرفناك أبا رحيما شملنا بالإحسان والطيبات، وعونا منقذا في كل النوائب والملمات. ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله ... إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا كل ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان)."
ويبين المؤلف أمن فى مقابل الإحسان من سلاطين بنى أيوب فإن الكثير من النصارى من الملوك كريتشارد قلب الأسد خان عهده بالحفاظ على الأسرى فذبحهم جميعا رغم تعهده لهم بتأمين حياتهم فقال :
رضا البطاوى غير متصل   الرد مع إقتباس