عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 20-12-2009, 08:40 PM   #49
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

صدمني أذكاهم يوما بسؤال غريب:" هل صحيح أنهم حرقوا لسانك بالكهرباء في السجن؟
كانوا إذن يعرفون سبب اختفائي. أجبته ضاحكا بالنفي.
فقال" وعلاش وليتي تمتام؟؟!!" لم أدر حينها بم أرد.
حتى الصغار لاحظوا التأتأة اللاإرادية التي أصبحت تعرقل كلماتي. أجهدت نفسي طويلا للتخلص منها. أضغط الحروف عند الكلام...أرخي شفتي...أزمهما...تتشنج عظلات وجهي وتكسوه الحمرة الشديدة...
استصغر الطبيب الثرثار الأمر ولم يتوقف عنده كثيرا حين حدثته عنه. وطمأنني واعدا بتحسن خالتي بعد الخروج من الصدمة والإلتزام بالوصفة الطويلة والمكلفة.
أرشدني حارس معمل نسيج تحيط به صبيات قاصرات تبحثن عن مكان ما داخل المصنع إلى رقم ومحطة الحافلة التي تقربني من بيتنا بعد ما أكد لي أنني أتواجد بالحي الصناعي عين السبع. تراجعت عن ركوب الحافلة في آخر لحظة مفضلا دخول البيت ليلا تحت جنح الظلام لأتفادى نظرات الفضوليين وكلمات الشامتين وضحكاتهم الصفراء.هكذا قررت آنذاك. فيممت وجهي غربا. رائحة البحر بدأت تدريجيا تنتصر في أنفي على ما تنفثه المصانع في تحد لأنصار البيئة ومحامو طبقة الأوزون الذي يتسع خرقه يوما بعد آخر,
لاحت لي زرقة البحر الأطلسي,خلو المكان وشمس الصباح أغرياني بغمس جمسي , ففعلت. مرة أخرى أوحت لي وساوسي الغريبة بوجود أسماك قرش جائعة تحوم حولي.فقمعتها رغم إلحاحها الشديد ومحاولاتها المستميتة لإقناعي.أستعيذ من الشيطان الرجيم وأتلو آية الكرسي متسمرا مكاني تاركا الأمواج تلطم ظهري. شعرت بلذة غريبة وأنا أـمرغ مستلذا دفء الرمال.تذكرت جدي حين سألته وأنا صغير عن تمرغ حماره ومسارعته لفعل ذلك كلما نزع عن ظهره (البردعه) .حدثني جدي أن فعله ذاك ينسيه تعب وعناء اليوم.صدق جدي وصدق الحمار واصلت التمرغ...
استلقيت على ظهري متوسدا سروالي الوسخ ومراقبا السماء. حركة سحابة صغيرة تزحف ببطء على شكل دب قطبي ضخم, حجبت للحظات شمس الصباح التي افتقدتها طيلة مدة تغييبي. ترى كيف هي أمي الآن؟؟؟
كيف ستستقبلني ؟؟ كيف ستكون اللحظة تلك؟! لا...لا... لن أهاتفهم. سأترك لهم المفاجأة هكذا قررت وأنا في القبو قبل مغادرته...
دخلت الزقاق متسللا كلص خائف تحت جنح الظلام. طرقت الباب...قلبي يهتز ويدي ترتجف ...أحاول التحكم في أطرافي فلا أفلح...انفتح الباب ببطء دون السؤال المعتاد عمن يطرقه. فكرة مجنونة سوداء قفزت لذهني.ماذا أفعل إن وجدتها ماتت؟؟ ماذا لو وجدتهم قد أهالوا عليها التراب؟؟ سأنتقم هكذا قررت حين ذاك وبسرعة دون تردد.
تسمرت بنت أخي للحظات تنظر إلي مبتسمة في خوف وخجل طفولي. قبل أن أنحني لرفعها ارتمت علي وهي تصيح: " ماما...ماما...عمي جا...عمي جا...عمي جا...انقلب البيت رأسا على عقب...عيناي تدوران بحثا عنها لم أستطع السؤال خوفا من الإجابة المميتة...لكن بعد لحظات وصلتني صرخات المسكينة.كانت في سطح البيت:
" وليدي...وليدي...وليدي..." ثم دوت زغرودة قوية بصوت فيه حشرجة وألم وحزن...
صعدت الدرج المؤدي للسطح فالتقينا في منتصف الطريق. حين لمحتني ارتمت علي...صرخت صرخة قوية ثم أصيبت بالخرس للحظات. لم تصدق ما تراه أمامها, كنت حينها منهوكا شاحبا, فقدت ربع وزني. في ظرف شهور قلائل فقدت ربع وزني وتغيرت ملامح وجهي. وجدت الحبيبة أمي قد ازداد رأسها شيبا وجسمها ضمورا. صارت مجرد حفنة عظام هزيلة. خطت المحنة على وجهها السمح أخاديد عميقة.هكذا بدت لي
تذكرها وذكراها كانت ولاتزال تدمي قلبي.تقتلني في اليوم ألف مرة. لا أدري سبب كل هذا الشغف...الحب ...والشوق الذي أحسه كلما أوصدت في وجهي الأبواب الضخمة وأطبقت الجدران على صدري... لم تلج المدرسة يوما, ولم تمسك قلما قط. لكن عيناها كانتا تشعان ذكاء ونباهة ونبلا...
عانقتني...ضمتني إليها بقوة, وبقيت متشبثة بي كطفلة تخاف ضياع دميتها منها...دموعها الدافئة لم تتوقف, بللت وجنتاي فاختلطت بدموعي التي جاهدت طويلا حبسها. بصعوبة بالغة خلصوني منها وهم يحاولون تهدأتها. ارتمت فجأة على قدمي. نزعت نعالي وقذفت بها من النافذة خارج البيت. بقيت مشدوها. هل تمكن منها الخبل والجنون بسبب صدمة فقدي.
بعد أيام وحين استعادتي لبعض توازني النفسي والعقلي نبأتني شقيقتي بسر التخلص من النعل. كانت وصية إحدى جاراتنا التي زعمت أن التخلص من نعل الخارج من السجن فور ولوجه البيت وعدم الإحتفاظ بها داخله يكون سببا في عدم عودته مرة أخرى للسجن. عدت رغم وصفة الجارة التي بدورها لايكاد أبناؤها يغادرون السجون حتى يعودون لها من جديد.
أصرت المسكينة أن أبيت أيضا في حضنها على السرير امتثالا لتعليمات نفس الجارة الخبيرة حتى يذهب روعي ويطرد دفئها برودة عظامي زعمت... رغم حيائي الشديد الذي يطبع علاقتي بها منذ زمن طويل فقد وجدتني ممتثلا, مطيعا, منقاذا ببلاهة واستغراب عيون وإشارات أفراد الأسرة التي تحثني على تلبية رغباتها كطفلة مدللة أو مريضة كانوا يخشون غضبها. بدت لي من خلال تصرفاتها أنها في الطريق إلى الجنون.ضمتني في الفراش كرضيع مقمط.وشرعت تتحسس ساقي ورقبتي وظهري. تبحث عن آثار وعلامات تفنذ بها كذبي. تبكي بحرقة وتسألني بدقة وتفصيل عن ما فعلوه بي. فضحتني آثار الأصفاد الملعونة على معصمي. بكت وبللت يدي بالدموع وهي تقلبها وتعاتبني على كذبي وادعائي بأنني لم أتعرض لشيء من التعذيب.
هل صحيح أنهم صعقوكم بالكهرباء يا بني؟ حدثني فأنا أمك.لماذا تخفي عني. الناس والجرائد يذكرون هذا؟؟؟ أنفي ذلك...وأنفي...وأنفي...تحاصرني بكلماتها وتفضحني عيوني. كانت تقول لي ,أنا صغير: أعرف كذبك من عيونك.أنت لا تعرف كيف تكذب.
حدثتني طيلة الليلة عن ما كابدته في غيبتي. تألمت لذلك كثيرا.في كل مرة كانت تقطع حديثها لتسألني: "هل تشعر بالبرد يا بني؟؟ هل أضيف بطانية أخرى إلى غطائنا.؟؟؟
استعد, سترافقني صباح الغد للسوق لشراء خروف.سأقيم لك صدقة للوفاء بنذر قطعته على نفسي. تظاخرت بالتثاؤب والرغبة في النوم,علها تهدأ وترتاح. باتت متشبثة بي.لم أذق طعم النوم.عند الفجر أخذتهال سنة من نوم.دفنت وجهي في صدرها وبكيت.دون شعور بكيت.ماذا أبكاني حينها؟
لا أدري.ما أذكره هو أنني بكيت...بكيت...بحرقة وصمت بكيت...حاولت كبح شلال الدموع المفاجيء فلم أفلح. فاستسلمت له. بكيت من القهر. وكنت حريصا على أن لا تراني أبكي.
يتبع بحول الله
__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس