عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 12-02-2010, 08:53 AM   #2
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي تفضلوا شاركونا

والذي يقرأ هذه القصيدة من الممكن أن تستوقفه هذه الحالة من التوازن بين الأمل والذي كان له في الواقع ما يبرره من ناحية وبين الشك الذي كان له ما يبرره كذلك في هذا الواقع ، لذلك لم نجد خطابه الشعري مليئًا بعبارات الأمل والنشوة غير المحدودتين وإنما كانت هناك منطقة فاصلة بين المشاعر العقلانية والأخرى غير العقلانية ممثلة في كل من الأداة قد والتي تفيد الاحتمالية ، والفعل يخيّل، والذي يحمل درجة من الشك تتراوح بين الحقيقة والخيال .

لقد نضجت نار طباخهم
ولن يحضر الطيبون العشاء

يخيل لي أن أختي الحياة
تتبل بالسم هذا الشـــــــواء

وكذلك في البيتين :

تناجى الغريبان كيف العراق؟
عصيّ على الموت والانحناء

مدين بحصته في العذاب
وقد يحسن المستدين الوفاء


والملاحظ في هذه القصيدة هو أن الشاعر وقف على أعتاب مرحلة هامة من الصراع في العراق والتي أكسبته معطياتها القدرة على التنبؤ بالوضع بالدرجة التي يقف فيها موقع الحذر ،ولأنه ليس في الشعر قيمة مطلقة،فإن الشاعر يعطي مساحة لاحتمالية الخوف رغم أنه يرى الواقع الذي هو فيه مطمئنًا بشكل أو آخر إلا أن الحذر ينبع من كون الشاعر واضعًا العديد من السيناريوهات المحتملة في الاعتبار والتي من الممكن أن تحدِث له مفاجأة غير سارة.

وليس من عجز يلجأ شاعرنا لاستخدام الأداة قد ، والفعل يخيل ، ولكن إيمانه بأن الشاعر عليه أن يوقظ روح الإحساس بالخطر جنبًا إلى جنب مع التفاؤل بالغد –من خلال الواقع المعاش- هو الذي يدفعه إلى ذلك.

ولعل المشهد العراقي الحالي فيه الكثير من الغموض والذي يجعل الشاعر يتريث قبل إصداره أحكامًا كلية مطلقة،فالصراع الطائفي من ناحية ، وصراع الطوائف المسلحة وانحراف بعض الحركات المقاومة من ناحية أخرى كلها عوامل من شأنها أن تجعل التنبؤ بالمستقبل أمرًا يحتاج إلى الحذر بما يستوجب استخدام الفعل يخيّل والأداة قد.

والشاعر لا يفعل ذلك إخلاء لمسؤليته الأخلاقية أمام الشعوب والقراء وإنما استفادة من الخطابات الشعرية الماضية والتي أثبت الزمن هشاشتها الفكرية لذلك يلتزم موقفًا وسطيًا لا يبلغ به الخوف حد الهلع ولا الثقة حد الغرور .

إن الشاعر هو وليد مجتمعه وخلاصة تجارب من حوله ، وليس بصاحب الخطابات المنبرية التي يهتف من ورائها إلى تصفيق الجمهور واستحسان الصحافة .وهذا االاستخدام الواعي للشك في مقابل الحلم الذي لا ينفيه يرسل من خلاله خطابًا إلى الشعراء لاسيماالناشئة منهم مفاده أن الجريمة الأشنع التي يرتكبها المبدع يومًا ما هي الاجتراء على التنبؤ وإعطاء الأحكام المطلقة في عالم لا يتمكن فيه أعتى العباقرة بذلك.

كذلك كان تعليل هذا التفاؤل مقبولاً ،فالتحدي والإرادة وقوة الاحتمال والتعامل مع شظف الحياة هي سمة المواطن العراقي البطل في مثل هذه المواقف فهو كما يصف الشاعر :

من الصخر يطحن بعض الدقيق
ويصنع من غيمتين الحساء

ويسقي الصغار حليب النجوم
يطيبهم بحبوب الدعـــــاء

على نغمات سقوط القنابــــــــــل
يضبط إيقاعه في الغنــــاء

ويشعل فانوس آلامـــــــــــــــــه
ويرفع عن قاتليه الغطــــاء

وهذه السمات كلها تتخذ من الفعل المضارع أداة انطلاق كتائب الأمل والتفاؤل ، فالأفعال المضارعة لم تكن مسبوقة بأداة نهي ولا نفي ولا جزم ولا بفعل ناسخ (كان)وذلك يعد مبررًا مقبولاً لهذا التفاؤل المنطقي والذي ابتدأ مع مرور الظباء في أول القصيدة ثم ركضها حتى شهود الفناء وتقدير الجملة هنا شهود الاحتلال الفناء ذلك الفاعل الذي حذفه ربما لدناءته وربما ليثبت أن زواله أمر حتمي لا يستوجب مجرد ذكر اسمه.وتستمر الأفعال المضارعة التي يرصد المبدع العزيز حركتها وكأنها حاضرة أمامه ليستخرج خلاصة التجربة وللقارئ حرية مجادلتها أو تصديقها ، لذلك فالعراق \الظباء تقوم بالتتبيل وكأن دخانًا ما يغطي ويحجب الرؤية أمامه فيلزمه بذكر الفعل يخيل ،وهذا التتبيل بطبيعة الحال هو شروع العراقي في مقاومة الاحتلال الأنجلو أميريكي.وهذه الأفعال المضارعة التي انتشرت في القصيدة بشكل واضح في إطار سرد المشهد والتنبؤ بالتجربة النضالية كانت ركيزة أساسية في هذه القصيدة الرائعة والتي سارت فيها الأفعال المضارعة وكأنها خط الدفاع الأول ضد انهزامية الماضي وتنازلات المستقبل المستترة بشعار الواقعية السياسية .لذلك نجده قد التقط مشهدًا هامًا يعبر عن هذه المقابلة في إدراك الواقغ:

كعادتنا لا نطيل الوداع
لنشعر أنا نطيل اللقاء

فالعراقي أصبحت عادته هي البحث عن الحلول والسبل الموصلة للقاء بهذا اليوم المنتظر يوم التحرير والاستقلال ،لهذا صارت إطالة الوداع والعناق والدموع المصاحبة لها في إطار الماضي الذي جاء رغم صيغته المضارعة شيئًا منفيًا بالمقابلة الممثلة في الجملة (نطيل اللقاء).

ونجد شاعرنا قد أظهر هذه الأداة قد في قوله (وقد يحسن المستدين الوفاء) لأنه يؤمن بأن الحرف قد المفيد للتوكيد في الماضي والاحتمالية في المضارع هو الحرف الأكثر دقة في تنبؤ هذا الوضع .ونلاحظ أنه تحدث على لسان الأعادي والذين دار بينهما هذا الحوار :

تناجى الغريبان كيف العراق
عصي على الموت والانحناء

مدين بحصته في العذاب
وقد يحسن المستدين الوفاء

ففي الشطرة الثانية من البيت الثاني(وقد يحسن المستدين الوفاء) انفصل هو بضميره عن المتحدث الذي كان يتكلم على لسانه وهو الاحتلال الذي يقول عن العراق مدين بحصته في العذاب والذي يعترف كذلك باستعصائه على الموت والانحناء .لماذا يخبتئ بعض الشك خلف هذه الغابة من الاعترافات بقوته من قِبل الخصوم ؟

السبب هو أن المبدع لا يصل إلى نتيجة مطلقة،فالحلم لديه لا يعني أنه متحقق على شاكلة (كن فيكون) ولكنه مخاض عسير يستغرق الوقت الطويل مما يستدعي احتمالية التأجيل وليس الانعدام وكذلك لأن المبدع يرى أن إحسان المستدين في رد الوفاء ليس مجرد عمليات تسقط كل يوم عشرات من الجنود الأعداء فحسب وإنما هو الجلاء التام عن الأرض ،وانعدام السيطرة من خلف أستار المسرح السياسي.

باختصار :إن الشاعر لا يرى أنه يمكن تسمية الانسحاب استقلالاً ما دام للمحتل وجود معنوي أو واقعي غير مادي على السطح وإنما متخف في العمق كما حدث مع الاحتلال الإنجليزي لمصر يوم أن استقل عنها في سنة 1923 ولكنه بعد الانسحاب واصل تحكماته وسيطراته غير المباشرة ليفعل بالسلم ما لم يفعله بالحرب .

وتستمر هذه الكتبية من الأفعال المضارعة يطحن ، يصنع،يسقي،يطيب ،يضبط ،يشعل ،يرفع وكان تواليها في هذا العدد القليل من الأبيات وبهذه الكيفية من التتابع معبرًا عن التجدد الذي يصيب الفعل ،فهو ليس متكررًا فحسب ، وإنما هو متجدد .والأفعال المضارعة استُخدمت في إطار من التكامل ،فالاستقلال ليس مجرد أفعال (يقتل –يسبي-يذيق ....إلخ) كما هو دارج في الخطاب الشعري الماضي وإنما كانت الأفعال تفيد حالة من التعاون والأخذ بأسباب النجاح المادي والمعنوي ، والمتأمل في هذه الأبيات لا سيما البيت :

ويسقي الصغار حليب النجوم
يطيبهم بحبوب الدعاء

يجد أن الواقع التربوي لم يغب عن مخيلته ، ويطول الشرح في هذه الجزئية التي تتعلق بمستقبل الأمم القائم على التنشئة والقيم الأصيلة التي لا غنى عنها لأي مجتمع يبحث عن ضالته في ركام تغيرات الزمن.


__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس