البئر *
أختارُ يوماً غائماً لأَمُرَّ بالبئر القديمة .
رُبما امتلأتْ سماءً , رُبَّما فاضَتْ عن المعنى وَعَنْ أُمْثُولة الراعي .
سأشربُ حفنةً من مائها
وأقولُ للموتى حوالَيْها : سلاماً , أيُّها البَاقونَ
حول البئر في ماء الفراشةِ ! أَرفَعُ الطَّيُّونَ
عن حَجَرٍ : سلاماً أَيها الحَجَرُ الصغير !
لعَّلنا كُنَّا جناحَيْ طائرٍ ما زال يوجِعُنا
سلاماً أَيها القَمَرُ المُحَلِّقُ حَوْلَ صُورتَه التي لن يلتقي أَبَداً بها !
وأقول للسَّرْوِ : انتبْه ممَّا يقولُ لَكَ الغبارُ
لعَّلنا كنا هنا وَتَريْ كمان في وليمة حارسات اللازَوَرْدِ , لعلَّنا كُنَّا ذراعَيْ عاشِقٍ ...
قد كنتُ أَمشي حَذْوَ نفسي : كُنْ قوياً
يا قريني , وارفعِ الماضي كقرِنَيْ ماعزٍ
بيديكَ , واجلسْ قرب بئرك .
رُبَّما التفتتْ إليكَ أَيائلُ الوادي ..
ولاح الصوتُ – صوتُك – صورةُ حجريَّةً للحاضر المكسورِ ...
لم أُكْملْ زيارتي القصيرةَ بَعْدَ للنسيانِ ...
لم آخُذْ مَعي أَدواتِ قلبي كُلَّها :
جَرَسي على ريح الصَنوبرِ
سُلَّمي قرب السماءِ
كواكبي حول السطوحِ
وبُحَّتي من لسْعة الملح القديم ...
وَقُلْتُ للذكرى : سَلاماً يا كلام الجَدة العَفَوِيَّ
يأخُذُنا إلى أَيَّامنا البيضاءِ تحت نُعَاسها ...
واسمْي يرنُّ كليرة الذَّهَبِ القديمة عِنْدَ باب البئرِ .
أسْمَعُ وَحْشَةَ الأَسلاف بين الميم والواو السحيقة مثل وادٍ غيرِ ذي زرعٍ .
وأُخفي ثعلبي الوديّ .
أَعرفُ أَنني سأعود حيَّا , بعد ساعات , من البئر التي لم أَلْقَ فيها يوسفاً أَو خَوْفَ إخوتِهِ مِنَ الأصداء .
كُنْ حَذِراً ! هنا وضعَتْكَ أُمَّكَ قرب باب البئر, وانصرَفَتْ إلى تَعْويذةٍ ...
فاصنعْ بنفسكَ ما تشاءُ .
صَنَعْتُ وحدي ما أَشاءُ : كَبرتُ ليلاً في الحكاية بين أَضلاعِ المُثَلَّثِ مصرَ , سوريّا , وبابل .
ههنا وحدي كَبرتُ بلا إِلَهاتٍ الزراعة .
[ كُنّ يَغْسِلْنَ الحصى في غابة الزيتون .
كُنّ مُبلَّلاتٍ بالندى ] ... ورأيتُ أَنِّي قد سقطتُ عليَّ من سَفَرِ القوافِل , قُرب أَفعى .
لم أَجِدْ أَحداً لأُكْمَلَهُ سوى شَبَحي . رَمتْني الأَرضُ خارجَ أَرضها , واسمي يَرِنُّ على خُطَايَ
كَحذْوةِ الفَرسِ : اقتربْ ... أَعود من هذا
الفراغَ إِليكَ يا جلجامشُ الأبديُّ في اسْمِكَ !
كُنْ أَخي ! واذْهَبْ معي لنصيحَ بالبئر
القديمة ... ربما امتلأتْ كأنثي بالسماء ,
ورُبَّما فاضت عن المعنى وعمَّا سوف يحدُثُ في انتظارِ ولادتي من بئري الأُولى !
سنشرب حفنةً من مائها ,
سنقول للموتى حواليها : سلاماً
أيها الأحياءُ في ماء الفَرَاشِ ,
وأَيُّها الموتى , سلاماً !
(من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" 1995)
|