عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-10-2010, 03:16 PM   #23
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
أهلاً بهذا الجمال والإبداع الذَين يعيدان للإنسان صحوة أحلامه ، وعنفوان بهجته!
قصيدة جمالها بكل بساطة في هذه الشاعرية المتدفقة ، والتي تصنع من الكلمات أجواء بهجة ، وتحاول الوصول إلى عمق هذه الموجودات ، فتكون كلها صديقة للبيئة وليست مجرد أشياء عارضة يلتقيها الشاعر أو يسكبها في القصيدة كي يكون قد شعر بأنه لم يهملها !
القصيدة فيها قدر كبير من الرومانسية ورغم أنها قليلة الصور أو صورها ليس فيها ابتكار بشكل كبير ، ورغم أنها كان فيها تداعٍ بسبب طبيعة القافية التي تغري الشاعر بالغرق في بحرها إلا أنها نقلت شعورًا لدى القارئ ، وهذا هو جوهر الشعر كما يقول النقاد القدامى (الشعر هو ما أشعرَكَ) ، ولا شك أن من يقرأ هذه القصيدة يشعر بجمال عوالمها ومكوناتها وبجموح محموم نحو عالم الطبيعة هروبًا من سطوة هذا العالم المتعب المسمى بالمدنية .
كذلك كانت النهاية (يهز كل كياني) آتية في المكان المناسب لها لتشعِر القارئ بأن الكيان هو محور هذه القصيدة والشعور بالحركة هو مبتغى شاعرنا العزيز .ومن أبرز ملامح هذه القصيدة :



وأعود أدفنُ فى الثـرى بشريتـى ** عند المسـاء وأرتـدى طغيانـى




رغم بساطة تعبير أدفن بشريتي ، إلا أنه عبر بشدة عن حالة التململ من هذه المادية الطاغية للحياة البشرية والتي ينشد شاعرنا الخروج منها إلى هيكل الأنوار (كالرهبانِ) كذلك كان تعبير أرتدي طغياني على ما فيه من استخدام المحسوسات كملموسات وتحجيم ما لا حجم له مميزًا لأنه جعل الطغيان له معنى عكس المعنى التقليدي ، فهو ليس عدوانًا وإنما هو إسراف وكان لفظ الطغيان على قوته مشعرًا بهذه الشحنة من المشاعر تجاه القرية والطبيعة عمومًا وضد المدنية .



أترى ظلام الكهف يمحق وحشتـى ** ويعيـد لـى حريتـى وأمـانـى

رؤية جيدة وفكرة مميزة تلح على الشاعر ، فحتى ظلام الكهف له قيمة تعلو على هذه الحياة ويحدث الشاعر نوعًا من التعاكس بحيث يكون الظلام أداة للحرية فقط لأنه ابن هذه الطبيعة الجميلة ولأن فيه مسرحًا للتأمل لا يتاح له في المدنية المفسِدة . وهذا الكهف له خصوصية ذكرها الشاعر في بيت سابق عليه :
وأود أن أحيـا بكـهـفٍ مظـلـمٍ ** فوق الجبـال الشاهقـات مكانـى

لماذا يتساءل الشاعر عن الكهف وظلامه ، لأن أثر المدينة ما زال باقيًا في نفسه فأشعره بتوجس من هذه الأحلام المتمناة. إلى ذلك نجد ألفاظًا كالثورة والاهتزاز والطغيان والنار والبركان والصراخ تفيد حالة من التمرد العنيف على هذه الحياة الصاخبة ، وهذا يُحسب للشاعر وليس إعابة عليه بالتكرار ؛لأنه بكل هذه الأدوات أكد على الفكرة وبرهن عليها بغير طريقة(أكثر من طريقة) وهو ما يفيد حالة من الغليان المستمر التي لا يجمع فيها طفولته الشاردة ، بل ويبحث بعدها عن أداة لوأد هذا الواقع ، فأفعال ما يمكن أن نسميه بالتخليص أو التطهير متناثرة في القصيدة يستنتج القارئ منها عبر امتداد القصيدة هذه الحالة التي كان فيها قبل الشرود بذاكرته . من المؤكد أن هذا الشرود كان في ذاته كافيًا ليزحزحه قليلاً عن هذه الحياة الصاخبة .
وإلى ذلك كانت القافية المكسورة النون سائرة عكس اتجاه القصيدة ، فالقافية المكسورة والنون تفيدان التأوه والانكسار إلا أن الشاعر قد وظفهما في عكس الاتجاه المنطقي للقافية .وإن كان هذا يجعلنا لا نجزم إطلاقًا بما يمكن أن يُسمى "الحركات الإعرابية والوزن والقافية ودلالاتها النفسية والمعنوية" فالعلاقة أساسًا بين الألفاظ والمعاني علاقة اعتباطية إلا أنها أحيانًا تنحدر درجة هذه الاعتباطية ويصبح بين القصيدة والغرض الشعري من خلال الوزن والقافية تطابق كبير .وهذا ما ليس في القصيدة.
ولا بد أن يستوقفني شخصيًا هذا البيت :
تتساقط الأوراق عـن أغصانهـا ** لتنام فـى خـدى لبعـض ثوانـى
مشهد رائع التقطه الشاعر بعدسة المخرجين وقام بعمل (زووم إن ) عليه إن هذه الثواني القليلة والتي تشهد حالة من الاسترخاء لم تكن حالة عادية بل باقية في ذاكرته بدليل أن الشاعر ذكرها في القصيدة ، ووقوعها على خد الشاعر أشعره أنها تلثمه ،لهذا -ربما- يكون استخدم التعبير (في) وليس لضرورة الوزن ، فكأنها قبلة الشجر بات أثرها على خده وبعض ثوانِ كان يعبر عن الانتقال إلى الواقع ،فمع الرياح الهادئة أو حتى غير الهادئة ينمحي أثر هذه القبلة (الشجرية) وعل ّ فيها تعريضًا بمحبوبته من قريب أو بعيد .
لكن كان ثمة خطأ نحوي لا ينتظر مجيئه منك أخي الحبيب :
كالـورد أقطـف باقـة بـيـدانِ
والأصح أن تقول مثلاً :
كالورد تـُقطـَفُ إن تُمدُّ يدانِ
وبعد ذلك يصرح الشاعر بما كان ملمحًا إليه من قبل :
فبعد أن كان يقول :
أترى ظلام الكهف يمحق وحشتي
ويعيد لي حريتي وأماني ؟
نراه يتجه بالتساؤل إلى منطقة مجاورة وصريحة :



أترى جمال الغاب يمسـح أدمعـى ** ويزيل ما عانيـت مـن حرمـانِ





إذًا ها هنا حرمان ، وماض أثر في الشاعر فعلاً جعله يستخدم هذه الأسئلة الاستنكارية وكذلك أشعرنا بأن مع الجمال -مهما اتسع- مسحة ألم مردها إلى هذه الحيا ةالمدنية الأفعوية التي ما زال أثر سمها باقيًا بشكل أو آخر ملحوظ في الوجدان .



هى تلك أحـلام الطفولـة دمعـةٌ ** تجتاحنـى وتهـز كـل كيـانـى


بعد ذلك كان حضور المحبوبة مفاجأة أتت بعد هذ ا الاستطراد في المشاعر محدثة مفاجأة للمتلقي الذي لم يكن يتوقع ظهورها أو لم يكن لديه ملمح مؤكد من ملامحها عبر طول القصيدة :


وأود أن أحيـا بقلـب حبيبـتـى ** فـى عالـم الأسـرار والوجـدانِ


لكن شاعرنا العزيز يخرج علينا بمشاعره الجياشة الرائعة في هذه القصيدة حينما يعبر عن أكثر من جانب من جوانبه الإنسانية الرحبة التي صاغها ببساطة وعمق في آن واحد :



أنـا نسمـة بشريـة تحيـا هنـا ** فـى عالـم الأنـوار والألــوانِ


تعبير نسمة بشرية جاء ليهيل التراب على البشرية التي كان يريد الهروب منها ليفتح المجال معها إلى بشرية استثنائية ويكو ن الشاعر بعد ذلك غير متجن على الإنسان وهذا دليل اتزانه الإنساني ، فلا تأخذه الإنسانية لكراهية كل البشر ، وتعبير نسمة بشرية فيه إشعار بهذا القدر من الرقة مع التناقض مع الطبيعة الأصلية للإنسان مما جعله يستخدم على لسانها كلمة بشرية لتؤكد أن في البشر أصنافًا طيبة غير معتادة ولا متوقعة ، كهذه المحبوبة.

__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس