عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 27-04-2014, 11:22 AM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

مزاعم التنبؤ بسلوك الشباب

لو تخيلنا أن رجلاً كان يمتطي جواداً قبل مائة عام، ويسير به على إحدى الطرقات في البادية، فيلمح عن بُعدٍ رجلاً آخرا يمتطي جواداً، فأي الاحتمالات يضعها كلٌ منهما تجاه الآخر؟

الاحتمال الأول: أن كلاهما يمر من جانب الآخر ويطرح عليه التحية ويمضي في طريقه، دونما رغبة منه أن يفتح مع الآخر حديثاً.
الاحتمال الثاني: أن يكونا يعرف أحدهما الآخر، فيتبادلان الحديث وربما الطعام.
الاحتمال الثالث: أن يضع كلٌ منهما لثاماً يخفي معالم وجهه، احترازاً من أن يكون أحدهما على خصومة هو أو أقاربه مع الآخر أو أقاربه.
الاحتمال الرابع: أن يحاول كل منهما تغيير وجهته في السير، أو أن يهيئ نفسه لقتالٍ مع الآخر.

إن هذه الاحتمالات آتية، من كون أن كلا الرجلين هما نتاج بيئة تداخلت فيها القيم والأعراف والثقافة وقواعد التعامل مع الآخرين وفقاً لنظرة (جوستاف لوبون) أن كل فرد من أفراد بيئة معينة اختلطت فيه خلال ألف عام دماء عشرين ألف من سكان المنطقة التي يعيش فيها. لنترك هذا المثال جانباً وبشكل مؤقت، ولنتجه الى تعريف السلوك.


ما هو السلوك؟

السلوك في اللغة هو المَدخل والمنهج والطريق. وفي التنزيل {ما سلككم في سقر} قالوا: {لم نكُ من المصلين؛ ولم نكُ نطعم المسكين؛ وكنا نخوض مع الخائضين؛ وكنا نكذب بيوم الدين}*1، أي كأن الحوار يكون: ما الذي أدخلكم جهنم؟ فيكون الجواب: لقد انتهجنا النهج المذكور حتى دخلنا جهنم.

والسلوك في علم الاجتماع: هو أي نشاط يصدر من الكائن الحي، من تقطيب الحاجب الى إفراز الغدة اللعابية الى تقليص المعدة الى الذهاب لمطعم الى القيام بالتظاهر الخ.

تفسير السلوك

هناك من يقرن السلوك بالشكل الظاهري للجسم، فالبدين يميل الى الراحة والروح الاجتماعية؛ وصاحب الجسم الرياضي يميل الى إثبات الذات بقوة والميل الى العمل والحركة والسيطرة على الآخرين ولا يهتم بمشاعرهم؛ وصاحب الجسم الواهن يتميز بالتوتر وعدم الثقة بالآخرين [شلدون 1940]*2

وفي المعارف الشعبية، نجد المصريين يقولون في كلامهم (كل طويل هبيل، وكل قصير مكير). ويربط البعض عريض الجبهة بنقاء السريرة، وحاد الأنف بالماكر والخادع، وشكل العينين والحاجبين فيقولوا: عيناه كعين الصقر الخ.

وأكثر النظريات في تفسير السلوك أهمية ووجاهة، هي التي وضعتها عالمة الأنثروبولوجيا (مرجريت ميد) والتي أمضت حوالي أربعة عقود في منطقة (غينيا الجديدة) القريبة من أستراليا، بأن الوسط الثقافي والمعرفي هو من يتحكم بالسلوك فقد وجدت في القبائل البدائية (آرابيش وتشمبولي وغيرها) عادات لا تتفق مع مقاييس السلوك في أي منطقة من بلاد العالم، حيث تكون السيادة في للمرأة فهي التي تعمل وتقاتل وتأتي بالرزق للأسرة، في حين يكون دور الرجل في التزين والجلوس في البيت، حتى دون أن يهتم بالأطفال فالرضع يتكفل بهم أطفال دون العاشرة! فالرجل يرقد على الفراش أثناء ولادة زوجته ويهتم بتسريحة شعره، وإذا سأل أحد عنه يجيب من يعرفه أنه في حالة ولادة، فالرجال بقبيلة (آرابيش) هم أكثر أنوثة من نسائهم *3

وتمشياً مع تلك النظرية، فإن اختلافاً يظهر في التعامل مع عذرية العروس في بلاد المسلمين، فإن لم تكن عذراء فإن مشكلة أكيدة ستؤدي الى الانفصال، في حين في بعض الدول الاسكندينافية، فإن المشكلة ستحدث لو كانت العروس عذراء.

كما أن شعوباً لها من التقاويم ما يختلف عن شعوب أخرى، ففي بلادنا وأوروبا السنة تقسم الى أربعة فصول، وفي جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى تقسم السنة الى فصلين، وعند الهنود الحمر تقسم الى ستة فصول، وعند الأسكيمو تقسم الى خمسة فصول*4

وهناك من يعتقد أن للوضع الاقتصادي دورٌ كبير في تحديد سلوك الأفراد، وكذلك الإعلام بمختلف وسائله (السينما، التلفزيون، الصحافة، والإنترنت. وهذا موضوع يطول لسنا بصدده.

القاعدة الخلقية وتوجيه السلوك

يرتبط بالسلوك مصطلح القاعدة الخلقية، وهي التي تحدد السلوك العام لأفراد المجتمع وترتكز على قوانين الدولة والتراث والصحبة (في الحي والمدرسة والعمل الخ).

ويشكل الدين أهم ركائز التراث في كل المجتمعات، ولو رجعنا الى القرآن الكريم لرأينا معظم سوره تتحدث عن السلوك الجيد وتقرنه بمكافأة الله (سور: المؤمنون؛ لقمان؛ المدثر؛ الماعون؛المطففين نماذج واضحة). وكما أن الدين يوجه نحو السلوك الحسن، فإنه أحياناً ومن خلال سوء القائمين على تفسيره يؤدي الى سلوك ضار، ففي عام 1208م أمر البابا (إبنو سان الثالث) بحملة إبادة على جنوب فرنسا راح ضحيتها 150 ألف قتيل من مسيحيي فرنسا وتدمير عدة مدن، والسبب خلاف على العمر الذي يتم به تعميد الأطفال!*5

وعند الحضارات القديمة، ظهر ما يشبه التنظيمات الدقيقة لوضع قواعد السلوك، فعند المصريين القدماء ظهر حكماء في السلوك نذكر منهم واحداً لطرافة حكمه يُدعى (عنخ شاشنقى) : (زوج ابنتك لابن صائغ ولا تزوج ابنك من ابنة صائغ)؛ (إذا فعلت معروفاً لخمسمائة شخص وتذكره واحدٌ منهم فقط، فهذا يكفي، بأن معروفك لم يضع كله)؛ (لا تشاور عالم في أمر تافه.. ولا تشاور جاهل في أمر جلل)؛ (فشلٌ كريم خير من نصف نجاح).*6

وفي الدولة الإسلامية بمختلف مراحلها، كان هناك مربون يُعهد إليهم تربية الأمراء وعلماء الحديث والفقه والفلك، ويلاحظ في كتب السير أن فلاناً تتلمذ على يد فلان وفلان.

أما قوانين الدولة، فهي قديماً وحديثاً نتاج المجتمع الذي يبقي على دولته ونظام الحكم فيها، باختياره وجهائه ونوابه في البرلمان وغيره، وعندما يختل التناغم بين أداء الحكومات وتشريع القوانين وتطبيقها يعم الفساد ويصبح التنبؤ بالسلوك صعباً بل مستحيلاً، فإذا كنا نسمع قبل عشرات السنين أنه إذا قيل لأحدهم أن فلاناً قد سرق أو قال كذا، كنا نجد من يدافع عنه بشراسة أنه لا يمكن أن يفعلها فهو فلان ابن فلان وهي عائلة معروفة باستقامة سلوك أبنائها، أما اليوم وكما يقال (لا يستطيع الفرد أن يزكي ابنه أو يبرأه من تهمة)

عودة الى المثال الأول

إذا كنا قد ضربنا مثل الرجل الذي يمتطي جواداً في صدر الحديث وما هي الاحتمالات التي سيتوقعها من الرجل الآخر، فإننا سنجعل ذلك الرجل يقود سيارة ويسير في شارع يسمح فيه الذهاب والإياب، وتقابله مئات السيارات وتتبعه مثلها، فأي احتمالات سيضعها وهو يقود؟ فالسواق مختلفون الأعمار وقد يُصاب أحدهم بسكتة قلبية مفاجئة، والسيارات من مختلف الأنواع وقد تتعطل إحداهن بشكل مفاجئ أو ينفجر أحد إطاراتها.

هذه حال حكوماتنا اليوم، كانت في الماضي تفتح ملفات لبعض السياسيين وتتبع أخبارهم، وتفتح ملفات لبعض المجرمين وتستدعيهم عند وقوع أي حدث، لكنها اليوم أعجز من أن تتوقع ماذا سيحدث بعد مباراة كرة قدم، أو عند محطة وقود، والأمثلة في تونس وسوريا وليبيا خير شاهد.

هوامش
*1ـ القرآن الكريم، المدثر آيات (42ـ46).
*2ـ محمد عماد الدين إسماعيل/ المنهج العلمي وتفسير السلوك/ القاهرة: دار القلم 1989 صفحة 159.
*3ـ كافين رايلي/ الغرب والعالم/ ترجمة: عبد الوهاب المسيري/ الجزء الأول/ عالم المعرفة 1985 صفحة 34.
*4ـ ماجد إبراهيم/سيكولوجية القهر والإبداع/ بيروت: دار الفارابي 1999 صفحة 67.
*5ـ جوستاف لوبون/ حياة الحقائق/ ترجمة: عادل زعيتر/بيروت: دار العالم العربي 2012 صفحة62
*6ـ محمد عبد الحميد بسيوني/ آداب السلوك عند المصريين القدماء/ القاهرة: مكتبة الأسرة 2002 صفحة 23.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس