عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 30-12-2008, 01:35 PM   #22
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

15ـ إجازة في بلغاريا

(( ثم نطهر مدينتنا الفاضلة من كل هذه الأشياء، بادئين بالأبيات التالية:
إني لأفضل البقاء في الأرض، عبداً لغيري،
عبداً لرجل لا يملك إلا القليل،
على أن أكون سلطاناً على كل الهالكين ...))
سقراط، في جمهورية أفلاطون، الكتاب الثالث

(1)

كعادته، يبدأ (فوكوياما) مقالته بفقرة تعزز مفهوم أن الليبرالية الغربية الحديثة هي وريثة ذلك التراث العميق الإنساني والفكري، وأن تراكم هذا التراث هو من أنتج ذلك اللون من التسيد المطلق الجميل!

ولا ينسى (فوكوياما) أن يربط تلك القيم التي عملت كروافع لإيصال الحالة الراهنة، فيختار أسماء تلك القيم ويربطها بمفكرين معروفين عالميا بانتمائهم للحضارة الغربية فأفلاطون يطلق على تلك القيمة اسم (الثيموس) وميكافيللي يطلق عليها (المجد) وهوبز يطلق عليها (الكبرياء) وألكسندر هاملتون يطلق عليها (حب الشهرة) وهيجل يطلق عليها (الاعتراف من قبل الآخرين بالأهلية والأحقية ) الخ.

ويركز (فوكوياما) على مصطلح (الثيموس) عند أفلاطون، ويعترف بأنه لا يستطيع ترجمته إلا في (الهمة والشجاعة)، وقد يكون مفهوم الثيموس هنا ضائعا بين ثنايا الترجمات ولن نقف عنده الآن.

(2)

يورد الكاتب بعض الأمثلة للتدليل على ما يقصده في موضوع (الثيموس)، ففي المثال الأول: إذا كان هناك شخص عطشان وعرض عليه الماء ويتعرف بخبرته أن الماء ملوث، فإنه سيمتنع عن الشرب!

وفي المثال الثاني يورد مما كتبه سقراط عن جلاد اسمه (ليونتيوس) انتابته موجة من الصراع الداخلي، وهو أمام مجموعة من جثث ضحاياه، فغطى وجهه بكفيه بالمرة الأولى مشمئزا من فعلته، ثم أجبر نفسه (تحت رغبته) على فتح عينيه وخطى نحو الجثث قائلا: أنظرا أيتها العينان الملعونتان وحملقا ما شئتما في هذا المنظر الجميل!

في المثال الثالث: يتعمد الكاتب للحديث عما كتبه (فاسلاف هافيل) الذي كان معارضا سجينا في عهد الحكم الشيوعي في (تشيكوسلوفاكيا) ثم أصبح بعد انهيار المعسكر الاشتراكي رئيسا للجمهورية: كتب يتندر على الحالة السائدة في العهد الشيوعي عن بائع خضراوات يضع بين الجزر والبصل قطعة مكتوب عليها (يا عمال العالم اتحدوا).

يعلق الكاتب متسائلا: هل يعِ بائع الخضراوات ما علقه بين خضراواته؟ وكيف سيتحد عمال العالم بعد أن يشتري بعض المشترين الخضروات منه؟ ولمن تلك الرسالة؟ هل هي رسالة الى العمال فعلا من أجل اتحادهم؟ أما رسالة الى الأجهزة السرية الشيوعية ليقول لها أنه متماشيا معها ولا شأن له بمعارضتها؟

ويتهكم (فوكوياما) كما تهكم من قبله كاتب الفقرة السابقة (الرئيس التشيكوسلوفاكي) ويقول ماذا لو صدرت التعليمات لذلك البائع بأن يضع قطعة مكتوب عليها: (أنا خائف، ولذا فأنا مطيع بدون شك).. يستنتج الكاتب أن البائع لم يكن مكترثا بمعنى اليافطة التي كتبها، فما الضير لو أن عمال العالم اتحدوا؟ فالسبب أن البائع لا يريد أن تُخدش قيمه (الثيموس) إن وضع على يافطته كلاما يصف حقيقته (أنه خائف وجبان).

(3)

إن فكرة عنوان المقالة (إجازة في بلغاريا) تكمن في الجانب الذي أراد فوكوياما أن يستهزئ به وهو أقصى متعة كان من الممكن أن يحصل عليها الشيوعي في ظل الأنظمة الشمولية صورة متدنية جدا عن تلك التي يعيشها المواطن في ظل الليبرالية التي ينادي من أجلها.

تعليق

أولا: فيما يخص الثيموس

في تملصه من تعريف الثيموس، أراد فوكوياما أن يبقي القاعدة التي ينطلق منها ذات شكل مبهم ليركب عليها صورا يضفي عليها طابعا أكاديميا وغير قابل للنقاش.

في حياتنا اليومية، نتقابل مع أشخاص يزعم أحدهم أن يقدم حلولا للمجتمع الذي يعيش فيه خلال حديث لمدة خمسة أو عشر دقائق، كأن يقول: يُقضى على الفساد، ويُصار لتوعية الناس، ويُصار الى تنظيم انتخابات شفافة، ويصار الى نقل التكنولوجية وإشاعة الأمن فتنتهي المشكلة.

لم يفعل ذلك المتكلم، إلا أن استخدم (نائب الفاعل) و (الفعل المبني للمجهول)، وهذا النمط من الحديث والتفكير نشاهده عند عموم الناس، من مثقفيهم الى عامتهم. لكن من سيكون الفاعل الحقيقي ومتى وكيف سيتم تنفيذ ذلك؟ لا يعنيه.

عند الفلاسفة، يُستعاض عن نائب الفاعل والفعل المبني للمجهول، ويتم اختراع (فاعل) له اسم ابتكره ذلك الفيلسوف (لوغوس، ثيموس الخ)

وبالنسبة ل (الثيموس) يستطيع من أراد تتبع ذلك اللفظ أن يجده عند سقراط المقتول عام 399 ق م، ويستطيع أن يجده عند تلميذه (أفلاطون المولود سنة 428 ق م والمتوفى سنة 348 ق م) ثم سيجدها عند أرسطو طاليس تلميذ أفلاطون (ولد عام 384 ق م وتوفي عام 322ق م). ومن أراد متابعة ذلك المصطلح سيجده عند الفارابي في مدينته الفاضلة المتأثرة بجمهورية أفلاطون (وعلى فكرة لم يكن لأفلاطون مثل تلك الجمهورية بل له كتاب اسمه السياسة تناقله بعض الإخباريون باسم (جمهورية أفلاطون).

كما سيجده عند (ابن رشد) ولكن مطعما بمسحة إيمانية، كما هي عند الفارابي، وبعيدة عن الإلحاد كما هي عند سقراط وأفلاطون وأرسطو.

إنها النواميس،(وهناك مؤلف لأفلاطون باسم: النواميس) والناموس مصطلح دخيل على العربية، ويدلل على تلك القيم العليا الثابتة التي تقرها المفاهيم الروحية السائدة، فهي عند فلاسفة المسلمين ترتبط بالعقيدة الإسلامية، وحتى المواطن العادي يستعملها لنقد الآخرين (ناموس ما عنده). إذن فالمصطلح ليس شيئا ثابتا كما هو السماء أو الحجر، بل هو القيمة التي يفترضها الفيلسوف أو المفكر بما يعتقد.

ثانيا: مثال بائع الخضراوات

سهل على أي إنسان أن ينتقي صفة سيئة عند رجل ويركز (الكادر) عليها ليجعلها بصفة كاريكاتورية. فيقول: هو إنسان ولكن أنفه كبير! والصورة التي أوردها فوكوياما، دعنا نبحث عنها عند أصدقاء أمريكا وفي بلادنا بالذات والتي لا يتناولها (فوكوياما) بالتركيز نفسه، فكم شركة ترفع برقيات التهاني لأمير أو ملك أو رئيس جمهورية، وكم فئة تخرج رافعة يافطة صيغت بالكذب والنفاق. وحتى بالولايات المتحدة نفسها، فكم ناخب لا يقتنع لا بالحزب الجمهوري ولا بالديمقراطي، يخرج ويدلي بصوته، ولا يُطلب منه أن يقول عن نفسه جبانا؟

إنه سلوك يلازم ظهور القوة الراهنة التي بيدها الحكم منذ تأسيس الحضارة حتى اليوم، فما أن تنتهي تلك القوة الراهنة، لينتقل التأييد المفتعل الى القوة الراهنة التي سيكون بيدها الحكم.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس