عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-02-2010, 01:03 PM   #40
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أنفذوا بعث أسامة

(في ذكرى تولية الرسول صلى الله عليه وسلم له: 29 من صفر 11 هـ)




كان أول أمر أصدره الخليفة "أبو بكر الصديق" بعد أن تمت له البيعة بالخلافة أن قال: "لِيُتَمَّ بعث أسامة".. وكان قرارًا صعبًا صدر في ظروف أشد صعوبة وحرجًا؛ فالعرب قد ارتدّت عن الإسلام، واضطربت شبه الجزيرة العربية، واستفحل خطر مدَّعيي النبوة: "مُسيلمة الكذّاب" في اليمامة، و"طلحة بن خويلد الأسدي" في منطقة بذاخة، شرقي المدينة المنورة، و"سَجاح" التي ادعت النبوة في قومها، بني تميم.

القائد الصغير السن

وأسامة بن زيد هو قائد الجيش الذي أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتجهيزه وإعداده، وإمداده بكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ لتأمين شبه الجزيرة من الروم ذوي البأس والقوة، وكان أسامة حدثًا لم يتجاوز العشرين من عمره عندما عقد له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لواء القيادة في (آخر يوم من صفر سنة 11 هـ = 28 من مايو 632 هـ).

وقد سبق هذا البعث عدة حملات عسكرية لتأمين الحدود الإسلامية من مداهمة الروم لها، بعدما بزغ الدِّين الجديد، وصارت له دولة قوية، يخشى الروم من تزايد نفوذها وامتداد سلطانها، وكانت غزوة "مؤتة" التي استشهد فيها "زيد بن حارثة" قائدها ووالد أسامة، واحدةً من تلك الحملات، تبعتها غزوة "تبوك" في (غرة رجب من العام التاسع للهجرة)، وقد خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) على رأس جيش ضخم، بلغ تعداده ثلاثين ألفًا، بعدما جاءته الأنباء بأن الروم يُعدّون العدة للهجوم عليه، فلما بلغ "تبوك" تبين أن ليس للروم جموع بها، فأقام هناك ثلاثة أسابيع؛ رتب خلالها أوضاع المنطقة، وفرض سلطانه وهيبته عليها، وكانت هذه الحملة نذيرًا جعل الروم يتراجعون إلى ما وراء حدودهم دون قتال.

جدارة أسامة بالإمارة

لم تختلف مهمة أسامة كثيرًا عن الحملات السابقة؛ فقد أمره (صلى الله عليه وسلم) أن يوطئ الخيل تخوم "البلقاء" و"الداروم" من أرض فلسطين، وأن يفاجئ العدو قبل أن يستعد لخوض المعركة، فتحلّ به الهزيمة، وتلحق به الخسائر؛ فتجَهّز الناس، وانضموا إليه.

وقد تحدث بعض الصحابة في شأن تولية أسامة قيادة جيش يضم كبار المهاجرين والأنصار من أمثال عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وقتادة بن النعمان؛ فقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين والأنصار؟ وبلغت هذه المقالة النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في مرضه الأخير، وجيش أسامة مقيم بالجَرْف خارج المدينة يتأهب للمسير، فغضب النبي (صلى الله عليه وسلم) وأمر نساءه أن يُرقن عليه الماء حتى تهدأ الحُمّى، ثم خرج إلى المسجد، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ فوالله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبل، وأيم الله إن كان للإمارة لَخَلِيقٌ، وإن ابنه من بعده لخليقٌ بالإمارة".

وكان أسامة حقًّا خليق بالإمارة؛ حيث كان شجاعًا مقدامًا منذ نشأته، فانضم إلى جيش المسلمين وهو في طريقه إلى "أُحد"، لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) ردّه لصغر سنه، ثم أبلى أحسن البلاء في "حُنَيْن"، وثبت فيها ثبات الأبطال.

إصرار أبي بكر على إرسال جيش أسامة

لم يتحرك جيش أسامة القابع في "الجرف" خارج المدينة حتى وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) واشتعلت فتنة المرتدين، وأحدقت الأخطار بالمدينة، ورأى أسامة أن يؤجل خروج الجيش حتى تسكن الفتنة، وتهدأ الأوضاع وتعود إلى حالتها من الأمن والاستقرار، وأفضى بهذا الرأي للخليفة أبي بكر الصديق، وعزر من هذا الرأي أن كثيرًا من الصحابة كانوا يؤيدونه؛ نظرًا لضرورة بقاء الجيش في المدينة، لحمايتها من المرتدين الذين يحيطون بها من كل جانب.

غير أن الصدّيق حين سمع هذا الرأي ثارت ثائرته، وقال: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفتني لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".

ثم قال لعمر بن الخطاب حين نقل إليه رسالة الأنصار بأن يولّي عليهم رجلاً أقدم سنًا من أسامة: "ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب، استعمله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتأمرني أن أنزعه".

تحرُّك جيش أسامة

أذعن الجميع لأمر الخليفة الذي أصرّ على إنفاذ جيش أسامة، وخرج إلى المعسكر ليودع أسامة ماشيًا على قدميه في (1 من ربيع الآخر 11 هـ = 27 من يونيو 632م)، وأمسك بخطام البغلة التي يركبها أسامة، فأحس أسامة بالحرج، وهو يرى الشيخ الوقور صاحب رسول الله وخليفته على المسلمين يفعل هذا، فقال: "يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتركَبَنَّ أو لأنزلنَّ". فقال أبو بكر: "والله لا تنزل، ووالله لا أركب.. وما عليّ أن أغبّر قدمي ساعة في سبيل الله"، ثم أوصاه بوصية جامعة توضح في جلاء آداب الحرب في الإسلام قال فيها:"… لا تخونوا، ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له…".

جيش أسامة يحقق هدفه





سار جيش أسامة حتى بلغ البلقاء؛ حيث تقع مؤتة، بعد عشرين يومًا من تحرُّكه من المدينة، وهناك نزل بعسكره، وأغار على "آبل"، وبث خيوله في قبائل "قضاعة"، وقضى على كل من وقف في وجهه من أعداء الله وأعداء رسوله، وأجبر المرتدين من قضاعة على الهرب إلى أماكن بعيدة عن طريق الشام؛ لأنهم لو بقوا في مواطنهم لازداد الخطر على المدينة؛ لأن المرتدين من قبائل عبس وذبيان - وكانت منازلهم إلى الشمال من المدينة - قد زحفوا على المدينة، بعدما ابتعد أسامة بجيشه، وكانت قضاعة من ورائهما تمثّل خطرًا داهمًا، إذا هي آزرت عبسًا وذبيان في زحفهما على المدينة.

وكان هرقل بحمص حين جاءته أنباء جيش أسامة، وما فعله بالقبائل العربية الموالية له في أطراف دولته على التخوم بينه وبين شبه الجزيرة العربية، فدعا بطانته، وقال لهم: "هذا الذي حذرتكم، فأبيتم أن تقبلوه مني، قد صارت العرب تأتي من مسيرة شهر فتُغِير عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم يصبها شيء". ثم أشار على أخيه بأن يبعث بحامية ترابط بالبلقاء، فلما تَزَل هناك حتى قدمت جيوش الفتح الإسلامية في الشام؛ فأَجْلَتها عن موضعها، وفتحت مدن الشام.

عودة الجيش الظافر

عاد أسامة بجيشه، وما إن بلغ مشارف المدينة حتى خرج لاستقباله أبو بكر الصديق ومعه جماعة من كبار المهاجرين والأنصار، وكلهم فرح وبِشر، ودخل أسامة المدينة، وقصد من فوره إلى المسجد النبوي الشريف؛ حيث صلى لله شكرًا على ما أنعم به عليه من نصر وما حققه من نتائج، حيث ألقت الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرّت عليها في شمال شبه الجزيرة العربية، وقالوا: "لو لم يكن للقوم قوة لما أرسلوا جيوشهم تُغِير على بُعد عنهم القبائل القوية"؛ ولذا كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها في أي مكان آخر.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس