عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 05-10-2011, 01:10 PM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(16)

لم تتطابق توقعات علوان عن الجامعة بواقعها مع ما كان يتخيله، فكان ينشغل في صغره بعض الشيء في تكوين صور عن ثلاثة أشياء: الطائرة وعملها، وسلوك المخابرات داخل دوائرهم، ومجتمع الجامعة.

كان شباب وشابات الجامعة، كأنهم طُلاب فصلٍ دراسي في مدرسة ابتدائية ترك لهم مُدرس الرسم حصة كاملة ليرسموا ما يجول في خواطرهم. كانوا يحملون صوراً مختلفة كما يحمل علوان صوره، وكانت وحدة تصورهم أو التقاء بعض ما يجتمعون عليه في إحدى الصور هو ما سيضفي الطابع العام للمشهد الجامعي. فلن يكون هذا المشهد صناعة جهة ما بل هو اتحاد تكوين صور قد ترتبط بعض تفاصيلها في نشأة الخلق، وحمورابي وهولاكو وصلاح الدين وتكتمل بالخطاب الفكري السائد بين جنباتها .

سيبتكر الجميع وبدون قرار من أحد نمطاً للسلوك الموحد ولغة تخاطب موحدة تختلف عن كل لغة كانت تتم في مدرسة ثانوية أتى منها كل منهم، سيتلمسون ماذا يجعلهم مقنعين ومحبوبين ومنطقيين ومفهومين. وهذا سيتماهى مع الزي الموحد للباس الطلاب والطالبات، فبنطلون أو تنورة ذات لون رمادي فاتح مع سترة ذات لون أزرق غامق (كحلي).

كانت مشاغل الخياطة تصنع تلك الملابس بنمر متفاوتة لآلاف الطلاب والطالبات، وتوزع مجاناً على الطلبة، ومن الطبيعي أن يقوم الطالب أو الطالبة بأخذ ملابسه الى خياطٍ خارج الجامعة ليجعلها أكثر ملائمة للجسم.

في حين كان بعض الطلبة والطالبات الذين أنعم الله على أسرهم، يذهبوا ليشتروا قماشاً بنفس الألوان ولكنه أجود وأفخم من تلك التي توزعها الجامعة. وكانت الفتيات يتفنن في تصفيف شعورهن، ويضفن بعض الإكسسوارات والعطور، التي ستعطيهن بعض التميز.

وكان في بوابة الجامعة مسئولون ومسئولات للقيام بتفحص المارين والمارَّات من الطلاب والطالبات وتنبيه أو منع من يبالغ في التطوير على الزي الموَّحد. وأحياناً إن فلت طالب أو طالبة من اعتراض من كانوا على البوابة، فإنه قد يكون عرضة لتنبيه المحاضر أو تلميحات الطلبة في قاعة الدرس.

(17)

لاحظ علوان شيئاً لم يكن يحسب حسابه ـ حتى بالتخمين ـ، لقد كان للجامعة مشهدٌ يختلف عمَّا نسجه في خياله، كانت ما يشبه حقلاً به أشجارٌ متناثرة غطته الثلوج لمدة عامين، فلا الأشجار واضحة المعالم، ولا النباتات الزاحفة أو العشبية يمكن التعرف عليها بسهولة، ومع ذلك لم يكن ليُقتل أي نبات من النباتات ولا حتى يفنى أو سيُلغى نموه.

كان قد مضى على حرب عام 1967 ثلاث سنوات تقريباً، والشكوك تلف كل الكائنات البشرية المنتشرة في المنطقة العربية، فلا المشاريع الفكرية مرضٍ عنها ولا القيادات السياسية أثبتت نجاحها في طرح الشعارات والعمل على تنفيذها، كانت الخسارة أو الهزيمة تعني كل فردٍ أو حتى شخصٍ، فشك بمواطنته أو انتمائه لجماعة أو رقعة جغرافية، كان في أعماق كل الأشخاص حِراكٌ غير موجه، لكنه في النهاية سيلتقي مع حراكات الجميع.

ومن الطبيعي أن تظهر في كل أصقاع الوطن العربي، جماعات تلقي اللوم على من سبقها، ولكون سجلاتها لم تلوَّث، فإنه سيظهر لها مريدون ومؤيدون وأنصار، ولو لوقت ريثما تقع بأخطاء تكون سبباً في الابتعاد عنها أو الانشقاق بحجة التصحيح.

في أجواء مثل هذه، سيتراكض الناس حول من يُقَّدم خطاباً موزوناً ويقدم معه عناصر جذبٍ مساعدة كإغراءات يحتاج بعضها الفقراء ويأخذها المخلصون دون تعفف واضح. وقد انتبه كثير من الدول العربية الناشئة حديثاً بثوراتها أو انقلاباتها وحتى تلك الدول القديمة لتلك الناحية، فركزت بالبداية على فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة وخصت بعضها بكرمٍ مُبالغ فيه، حتى تورم جسمها ودخل فيه الغث والسمين في زحمة التهافت حولها، لتصنع تلك الأموال خلايا مفسدة نائمة أو قائمة تعمل بوحي ممن يُغدق عليها المال، فاستلهمت أساليب مموليها وحتى أدواتهم في العمل والمتابعة، وحتى مراسيم التشريفات.

كانت ظلال كل تلك الشواهد، تترك ضوءاً خافتاً فوق سطح الثلج، ولم يكن في الإمكان متابعة هذا الكم الهائل من الخيوط الملونة والمبعثرة والمتشابكة لصنع سجادة ذات هوية.

(18)

في ساحات الجامعة، من قاعات درس، وشوارع، وقاعات استراحة وطعام، كان ينتشر جيشٌ من المبشرين، بعضهم لم يتدرب القتال، وبعضهم لم ينه تدريبه، وبعضهم زجَّ نفسه في هذه المعمعة دون قناعة.

ولأن الكوادر المحترفة قليلة، كان الكل يتسابق لاحتلال مواقع متقدمة نوعاً ليزحف الى الأمام في معركته. وكان المؤشر لترقية هؤلاء هو الكسب (للصف) فبقدر ما يُحضر أحدهم عناصر جديدة، بقدر ما يتم ترقيته وإناطة المسئوليات به، وبقدر ما يثبت المنضمون حديثاً جدارتهم، بقدر ما يعود على من ضمهم من نفع، ولأن الكل أدرك تفاصيل اللعبة، كانت (الروزنامة) هي التي تتحكم في ترقية الجميع.

لم يستثنِ المنتشرون للكسب أي أحد، ولم يتملص المهيئون للكسب من أحد، إلا اللهم أولئك الذين حضروا من خلال اتفاقيات ثقافية أو هِبات تمنحها الدولة لحركات سياسية كفصائل الثورة الإريترية وجنوب السودان ودول الخليج وغيرها ممن لم يكن لديهم جامعات في وقتها، فهؤلاء كانت حزم التعليمات لهم بعدم اختلاطهم بالغير أو التأثر به.

لم يعانِ الكاسب كثيراً في ضم أحد، أو ربما أنه لم يبحث عمن يسبب له المعاناة فهو في عجلةٍ من أمره، لكي يضع في رصيده من الكسب أكبر عددٍ ممكن، فإن جادله أحدهم وأطال في النقاش أو أحرجه في الحوار حيث لم تكن لهؤلاء الكاسبين إلا أرصدة قليلة من الثقافة والتعليمات التي يُمرّنوا عليها، فإن كان مثل ذلك الشخص هو من يصادفه، فإنه سيكتب تقريراً بأن هذا الشخص معادي أو شيوعي أو مخابرات لبلده، وقد يُبعد مثل هذا الشخص عن البلاد أو يتم فصله من الجامعة إذا شهد أحدهم أنه كان يتناول الخمر! وقد يشعر الشخص نفسه بعدم ودية الأجواء ويرحل عن الجامعة في وقت مبكر.

__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس