عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-11-2014, 11:28 PM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الخصائص الفكرية للنخبة العربية القديمة وأثرها على الاقتصاد

أصبح معروفاً أن الأعراق البشرية تختلف في أرضيات فهمها للحياة، ولكنها في النهاية تتواصل حضارياً وتجعل من المقتربات فيما بينها أمراً وارداً ومتاحاً*1

حتى في المجتمع الواحد، فإن تَسَيُّد لون من الفكر الاقتصادي يكون مقترناً بدور من هم أصحاب الأفكار ومدى تحويل أفكارهم لإجراء أو نهجٍ يُمد الأعراف وقواعد التحكيم بفقهٍ مقبول ضمناً ولا يكون مثار جدل. فالاشتراكيون عندما يحكمون يضعون مبادئهم قيد التنفيذ ـ بما أمكن ـ والرأسماليون كذلك.

نحن هنا ننوي مواضعة هذا الكلام على قُريش قبل الإسلام، وكيف كانت تتعامل مع المسألة الاقتصادية ببساطة مع رؤية أخلاقية واجتماعية تتلاءم مع خصوصية المجتمع في مكة آنذاك. وكيف أن تلك المسألة تركت مساحات واسعة في المادة الإسلامية من خلال القرآن الكريم، ومن خلال الأحاديث النبوية الشريفة، وكيف أنها احتلت مساحة هامة في التعاطي الاقتصادي للدولة الإسلامية حتى انهيار الدولة العثمانية.


(1)


عندما انتصر (قُصي بن كلاب) مؤسس دولة مكة قبل الإسلام، حيث استطاع أن يدخل مكة بجماعته قريش التي كانت تسكن في أطراف مكة، فبعد أن تزوج قصي من (حُبّى) ابنة حليل ابن حبشية الخُزاعي الذي كان مسئولاً عن الكعبة والذي كان أمر مكة كلها بيده، فولدت (حبى) لقصي أولاداً كُثر، وصدف أن ورد مكة للحج تاجر (جلود) معه مالاً كثيراً، فتوفي أثناء الحج فوهب ماله كله لقصي.

وعندما مات (حليل)، أوصى بمفاتيح الكعبة لابنته (حبى)، فقالت لا أستطيع حمل وفتح الأبواب، فتولى الأمر أخوها (أبو غبشان: واسمه المحترش ابن حليل) وكان في عقله خلل، فاشترى قصي منه المفاتيح بزق خمر، وكان ذلك من أسباب نشوب الحرب بين (خُزاعة) و(قريش)، فاستعان قصي بأخٍ له من أمه اسمه (رزّاح) بن ربيعة من قبيلة ضبة فانتصرت قريش على خزاعة وبدأ قصي بتأسيس دولة مكة وتقسيم الأدوار فيها*2

لقد كان للملأ الأعلى الذي يحكم دولة مكة الدور الأكبر في تأسيس ثقافة تُنتج القواعد والقوانين وعقد (الأحلاف)، بقيت مؤثرة في طبيعة الدولة حتى الصدر الأول من الدولة العباسية، مروراً بدولة الخلفاء الراشدين ودولة الأمويين وانتهاءً بعهد الأمين ابن هرون الرشيد. كانت تتصارع مع تعاليم الإسلام بنبذ العشائرية وإحلال العدالة، تتغلب عليه أحياناً ويتغلب عليها أحياناً أخرى، وقد ظهر جلياً تغلب الإسلام على ثقافة قريش في عهد الرسول صلوات الله عليه، وفي جانبٍ كبير من عهود الخلفاء الراشدين وعهد عمر ابن عبد العزيز (الأموي)، ولكنها لم تختفِ حتى يومنا هذا.

لقد كان اقتسام الأدوار في دولة مكة قبل الإسلام، الأثر الهام في ديمومة الدولة في العصر الجاهلي، فأصبح الى جانب الكعبة ، دار الندوة يديرها (الملأ) ، الذي كان أشبه بمجلس الشيوخ ، لا يدخله من لم يبلغ الأربعين عاما .

وكانت الصفوة المتزعمة (حكومة العشرة) التي كانت تمثل بطون قريش ، وتوزعت مهماتهم على النحو التالي:*3

1ـ بنو هاشم ـ سقاية الحج(وزارة الري) ويمثلهم العباس ابن عبد المطلب .
2ـ بنو أمية ـ الراية ( الحرب) ويمثلهم أبو سفيان .
3ـ بني نوفل ـ الرفادة(التموين) يمثلهم الحارث بن عامر .
4ـ بنو عبد الدار ـ السدانة والندوة يمثلهم عثمان بن طلحة .
5ـ بنو أسد ـ المشورة العليا (المحكمة) يمثلهم يزيد بن زمعة الأسود.
6ـ بنو تميم ـ الرايات والغرم (العدل) ويمثلهم أبو بكر الصديق .
7ـ بنو مخزوم ـ القبة و الأعنة (الجيش) ويمثلهم خالد بن الوليد .
8ـ بنو عدي ـ السفارة (الخارجية) ويمثلهم عمر ابن الخطاب .
9ـ بنو جمح ـ الأيسار (الكهانة) ويمثلهم صفوان بن أمية .
10ـ بنو سهم ـ الأموال الموقوفة (الأوقاف) الحارث ابن قيس .

(2)

ومن المسائل الأخلاقية التي تركت أثرها في نفوس العرب ما كان سائداً من انتحار جماعي والذي كان يُسمى (الاعتفاد)، فعندما كانت عائلة تجوع ولم تجد ما تأكله يقوم رب الأسرة بإغلاق الأبواب على العائلة، والجلوس صامتين حتى الموت!

كان هذا اللفظ معروفا ومتداولا بينهم حتى الأطفال يعرفوه . فيحكى أن عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ، كان له طفلا يدعى أسد وكان لأسد تربا أي صديقا يلعب معه ، وقد أخبره تربه ذات يوم أنه في الغد لن يحضر للعب ، لأن أسرته ستكون في حالة إعتفاد ، فتكدر أسد وذهب الى أمه باكيا ، فأعطته بعض الدقيق وشحم السنام ، فأرسلها الى بيت صديقه ، أكلوها في عدة أيام ، ثم عاد صديقه ليخبره بأنه لن يحضر للعب في الغد لأنهم في حالة إعتفاد.*4


وعندما أخبر أسد والده عمرو بن عبد مناف ، وكان سيدا في قومه ، جمعهم فقام خطيباً في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثاً تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الإعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الإعتفاد، ففعلوا. ثم انه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسميّ هاشماً. وفيه قال الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

تم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارة، فما ربح الغني قسّمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:

والخالطون فقيرهم بغنيهّـم... حتى يصير فقيرهم كالكافي
وهذه أول إشارة عربية قديمة للعدالة الاجتماعية

هوامش
*1ـ العرق والتاريخ/ كلود ليفي شتراوس/ نشرته اليونسكو عام 1952، وترجمه للعربية: سليم حداد، وصدرت الترجمة حديثاً عن دار المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
*2ـ قُريش: من القبيلة الى الدولة المركزية/خليل عبد الكريم/ القاهرة: سينا للنشر ط2 سنة 1997 صفحة 36
*3ـ مقدمة في دراسة المجتمع العربي/ الياس فرح/ بيروت: دار الطليعة ط
سنة 1980 صفحة 48
*4ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ بيروت: دار العلم للملايين.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس