عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 09-12-2012, 08:54 PM   #1345
اقبـال
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2009
المشاركات: 3,419
إفتراضي

ب-ظلَّت شريحة واسعة من المثقفين والسياسيين، أسرى آليات نقدية تجاوزتها تجارب الأمة بشوط كبير. فعلى الرغم من المتغيرات والمعطيات على أرض الواقع ظلَّت النخب المثقفة أسيرة مرحلة نقدية تحاسب الوقائع على أساسها، وهي أصبحت بحاجة شديدة لتغيير آلياتها النقدية لتواكب المراحل الجديدة من نضالات الأمة، وهي الخروج من نقد ما يجري على الساحة النضالية القومية على مقاييس الحروب النظامية إلى استخدام مقاييس أخرى تحسب للإمكانيات والمخزونات الشعبية فعلها وتأثيراتها في خوض حرب طويلة الأمد ضد أعداء الأمة.

هذا الجانب كان مأخوذاً بأهميته القصوى عندما قرَّرت قيادة حزب البعث في العراق خوض المواجهة ضد أعتى قوة عسكرية في العالم؛ والسبب أن لحزب البعث إرث فكري وسياسي ونفسي معلن حول آليات وثقافة الكفاح الشعبي وأعلاه درجةً المقاومة المسلَّحة.

وعى البعثيون تلك الحقيقة فتوقعوا نتائج مرحلة الحرب النظامية على أساسها، واعتبروها مرحلة أولى وغير أساسية في الصراع، وأعدوا البديل عنها منذ سنوات عديدة سبقت الحرب النظامية العدوانية، ولهذا لم يكترثوا بأكثر من الشعور بالألم من احتلال العراق، ولكن الألم لم يصل إلى حدود الصدمة والمفاجأة، بل انتقلوا إلى استراتيجية أخرى، طلَّقوا فيها العمل العلني بالعودة إلى العمل السري، وتابعوا نضالاتهم على قاعدة حرب العصابات ، منذ العاشر من نيسان، بعد انتهاء المرحلة النظامية في التاسع منه.

وإذا بقيت أوساط مثقفة وسياسية ثابتة على آليات نقدها السايق، فهذا يعني خسارة طاقات فكرية وسياسية ونضالية كان يمكن أن تفيد مرحلة النضال الوطني والقومي الراهن في مواجهة الاستعمار لو أنها شاركت في تثقيف الجماهير الشعبية بأهمية المقاومة المسلَّحة وفعاليتها. إن استقالة أولئك من دورهم ستجعل حركة النضال بطيئة ولكنها لن تلغيها أو تلغي ما يجري من حقائق على الأرض يعترف بها العدو قبل الصديق.

ج-تسود بعض الأوساط السياسية والمثقفة من العراقيين، وأكثر منهم من العرب، رؤية خاصة بالنسبة للمقاومة العراقية. تقوم أسسها على حالة انفصام بين الظواهر وصانعيها.

في هذا المجال، وبسبب خلفيات إيديولوجية حزبية، أو بسبب مواقف سياسية سابقة، تظهر بعض المواقف انفصاماً بين تأييد المقاومة العراقية –كأهم ظاهرة في تاريخ العرب الحديث والمعاصر- وتوجيه نقد لاذع يصل إلى حدود التجريح الشخصي للرئيس صدام حسين ولحزب البعث معاً، يتم ذلك على الرغم من أن كل البراهين والوقائع تثبت –بما لا يدع مجالاً للشك- بأن حزب البعث بقيادة صدام حسين قد أعدَّ متطلبات المقاومة الشعبية وموجباتها منذ زمن طويل. وفي تلك المواقف، التي لا بُدَّ من أنها تحمل الكثير من الجور والظلم والتحامل، تسود أحكام »الشخصنة« و»لفردنة«، بحيث يُحلُّون الفرد بديلاً للوطن. فيحرِّضوا ضد الوطن، أو ضد القضايا السامية المرتبطة به، من خلال تحريضهم ضد أشخاص أو أفراد.

إن ظاهرة ما تشكل مثار اعتزاز وتأييد لا بُدَّ من أن يكون صانعها، أو المساهم فيها، يستأهل الاعتزاز والتأييد أيضاً. وإذا حصل العكس فلن تكون تلك الأحكام إلاَّ محط استهجان واستغراب، وتدعو إلى الشك في الحالة النفسية والمعرفية لمطلقيها، ولا بُدَّ من أن تكون مجالاً للتشكيك في السوية النفسية والمعرفية لهم، فهم يمارسون –تحت مظلة الادِّعاء بحب الديموقراطية- منتهى الديكتاتورية الفكرية. وهنا نسجِّل أن الديكتاتورية ليست قمعاً بوليسياً ومخابراتياً فحسب، بل هي قمع فكري وسياسي أيضاً. وهي فصل منطقي تعسفي بين القضايا الكبرى وصانعيها. وهذه المسألة لا تنعكس سلباً على واقع تقييم التجربة العراقية فحسب، بل تؤسس لقواعد معرفية عربية خاطئة تسهم في تضليل الثقافة الشعبية العربية أيضاً.

فإذا كانت الأسس المعرفية العامة عند الكثير من النخب السياسية والمثقفة العربية تسير في المسالك الخاطئة، فإن ذلك –بلا شك- سينعكس على الأحكام حينما يبدأ دور تحديد أسس للديموقراطية بين شتى الفصائل المشاركة في المقاومة العراقية.

ليست موازين القوى بين الفصائل المشاركة متساوية، وإن لم تكن كذلك فهي متكاملة، ومن أهم خصائص تكاملها هو أنها تمثل الوحدة الوطنية. لكن لا بُدَّ لأي عمل، كمثل المقاومة العراقية، من أن يكون لها قائد، وعلى القاعدة الديموقراطية يكون »الأجر على قدر المشقَّة«. فلا يعني، في مثل هذه الحالة، أن تغمط الديموقراطية حق الذي يقدِّم أكثر من غيره، بل الأجدر أن تعترف له بهذا الحق([1]).

فإذا كان حزب البعث يحسب أنه قائد للمقاومة فإنه لا يفتعل ذلك. لكن الحزب، وفي الوقت الذي يعلن فيه تلك الحقيقة، فإنما جاء إعلانه مترافقاً مع نصح لبعض الفصائل التي تقاتل بأن لا ينجرّوا إلى افتعال معارك فئوية يعرف الحزب تأثيراتها السلبية على مسار المقاومة المسلَّحة. ولهذا دعا تلك الفصائل إلى الابتعاد عن كل ما يلحق الأذى بالعمل المقاوم، وعن كل ما يلهيه عن أهدافه الأساسية. كما دعاهم إلى العمل بجدية في سبيل ترسيخ عمل جبهوي وطني يكون فاعلاً للتسريع في طرد الاحتلال([2]).

تنسب قيادة »المقاومة والتحرير« العراقية لنفسها القيام ب 95% من الأعمال العسكرية([3])، إلاَّ أن التعليمات السياسية –كما يقول أحد قادتها- تقضي بمساعدة كل شخص أو مجموعة أو فئة، إلى أية جهة سياسية تنتمي، وتزويده بالإمكانيات المتوفرة، والتنسيق –بشكل كامل وفاعل- معها([4]). فقيادة المقاومة العراقية السياسية الوحيدة المعروفة هي قيادة البعث، لكن الجماعات المقاومة الأخرى ما يزال بعضها محدود الانتشار، وقد دخلت إلى ساحة المقاومة على أساس دوافعها الوطنية أو الدينية، وكانت محدودة التجربة والإمكانيات. وقد تلقى المقاومون البعثيون تعليمات واضحة من قيادة الحزب البعث أن يسعوا إلى التنسيق ميدانياً مع كل الجماعات التي تقاتل، وأن يوفروا لها السلاح والحماية والمعلومات وكل وسائل الدعم التي تحتاجها، وكان من نتائج هذا التنسيق القيام بعمليات مشتركة في أكثر من مكان.

ولا بد من القول إن تشكيل جبهة وطنية تضم كل المناوئين للاحتلال والمنتمين للمقاومة، هي مطلب بعثي ومصلحة وطنية في الوقت نفسه، وإن الاتصالات في الجانب السياسي لا تزال مستمرة لتحقيق هذا المطلب الذي من شأنه أن يقوي من عزيمة المقاومة وأدائها ([5]).

وعلى أية حال لم تخرج تجارب حركات المقاومة على الصعيد العربي والعالمي عن واقع الحال الذي تعيشه المقاومة العراقية، فهناك فصائل واتجاهات، بعضها أقرَّ اشتراكه بالعمل المسلَّح وبعضها الآخر يساند المقاومة المسلَّحة وأية أشكال أخرى، وأجمعوا على أن مقاومة المحتل لها الأولوية على كل التناقضات السياسية والفكرية التي تحكم علاقاتها السابقة، ولهذا لا يجوز تبرير مواقف المنكفئين عنها أو المعارضين لها أو المحاربين لها أو المتعاونين مع الاحتلال تحت حجة أنها ترتبط –بشكل أو بآخر- مع رأس النظام السابق أو الحزب الحاكم([6]).

د-تقاعدت بعض الأوساط السياسية أو الحزبية العربية عن القيام بواجب دعم المقاومة العراقية من جراء التباسات وقعت فيها عندما ساوت بين المهمات النضالية الداخلية للمعارضة مع المهمات ذات العلاقة بالتحرر الوطني(])، وتصاعد موقفها السلبي من المقاومة العراقية بعد أن تأكَّد لديها أن للمقاومة هوية وارتباط وثيق مع حزب البعث بقيادة صدام حسين، فتناست أهمية المقاومة وقدسيتها أمام مواقفها الإيديولوجية السابقة منهما. إن تلك المساواة في الأولويات النضالية هو »نتاج خطأ فهم وتحديد العلاقة بين قضية الحريات والديمقراطية« والعدوان الخارجي، بما فيه احتلال الأرض الوطنية. ويتبيَّن خطأ مواقف تلك التيارات في الربط بين المسألتين إذا عرفنا أن »الحرية والديمقراطية (ليستا) هدفاً مستقلاً فحسب بل هما أيضاً ـ وأساساً في هذه المرحلة ـ وظيفة للنضال التحرري الوطني ضد الاستعمار والصهيونية«. ولا معنى لهما في ظل خضوع الجميع لإرادة الاحتلال، فمن يكن صادقاً بشعاراته في الحرية والديموقراطية عليه أن يحرر الأرض أولاً ، ويعيد السيادة على الأرض والقرار للإرادة الوطنية. لذلك فيما لو كان الاحتلال الأمريكي للعراق قد نجح في إخماد المقاومة العراقية تماماً، سيجعل مطلب جلاء »إحدى المهمات الأساسية المباشرة« لكل قوة وطنية عراقية أو عربية حقيقية، لأنها مقاومة للاستراتيجية الأمريكية والصهيونية ([7]).

وعلى هذا الأساس، وعلى الرغم من تباين أيديولوجيات فصائل المقاومة، تعمل جميعها من أجل هدف واحد، وهو إيقاع أقسى الضربات والخسائر البشرية والمادية بقوات الاحتلال والمتعاونين معها([8]). وهذا ما يُفرغ الدعوات التي تربط بين مقاومة الاحتلال الأميركي والنضال من أجل الديموقراطية من البراهين العملية، ويبقيها مجرد شعارات خالية من المضمون.
اقبـال غير متصل   الرد مع إقتباس