عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-08-2008, 11:57 AM   #38
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

اطمئن يا محمود فالسائرون وراءك أكثر من عشرين !!

--------------------------------------------------------------------------------

قد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي والسائرون وراءه عشرون شخصا ما عداي!



حسين نصرالله












منذ رحيل المتنبي لم يفجع الشعر العربي برحيل قامة من قاماته الكبار، مثلما فجع بفقدان نجمه بامتياز محمود درويش. منذ بداياته الأولى استطاع هذا الشاعر أن يحرر القصيدة العربية من'المثالب' التي هيمنت على لغة الشعر قبله. لقد كان مسعى درويش الأول هو التحرر من فخامة الكلاسيكيين وبلاغتهم وجهوريتهم، ومعه لم يعد اللفظ الرقيق هدفاً للخلق، بل اللفظ المشحون المضطرب برموزه.
إنه سيد الصورة الشعرية، تلك الصور الغنية والمتحررة والمضيئة، مكتوبة بلغة لا تقارب التعقيد ولا تسقط في فخاخ الغرابة، وهي رغم ذلك متفردة تحمل ميسمها الطليق، الجذاب والقادر على الحياة وعلى الآخرين. قصائد تتوهج بنورها الخاص وهي لشدة حميميتها تأخذ بمجامع القلوب وتستأثر بها، وتعلق بالذاكرة، وكأنها تملك طاقة الحفر وموهبة النقش في أذهاننا.
دائماً يعطينا هذا الشاعر الصورة غير المتوقعة، الصورة المدهشة التي لم نعتد عليها يوماً، وها هو يدعونا إلى'تربية الأمل' ويحرضنا على اجتراح 'ذاكرة للنسيان'، ومعه نعثر على ذلك الجنوح نحو تمثيل الحياة العريضة المتفتحة المغاليق، نحو إيجاد معان جديدة في الأشكال والألوان والأشياء، وفي علاقتها بالإنسان وتجربته. إن في صوره (وخصوصاً في أحدث قصائده) غرابة ذات معنى داخلي، فكأنها تصدر عن النفس العميقة الجارفة الاندفاع كالنهر، وفيها مفاجأة الأشياء الغريبة واصطدام الرؤية بالمعنى البكر المعتق، البريء المتحذلق، المختمر بمعاني الأشياء في روحها البدائية، وفي محتواها الحضاري الجديد.
إن مغامرة محمود درويش الأولى هي مع المعنى، لكنها في الوقت نفسه مغامرة مع اللغة، فاستعماله للكلمات بعيد عن المألوف، وقاموسه الشعري غني بالدلالات، وهو مغامر جريء توصل إلى أسلوب شعري خاص به، وفرض على لغة الشعر كلمات لم يسبق لها أن استعملت في الشعر. إنه شاعر المعنى والإيماءة والتوهج، وإذا كانت الكلمات في شعره تحافظ إلى هذا الحد أو ذاك على معناها الأول، إلا أنها أيضاً وهنا فرادتها تكتسب قرائن جديدة فهو يقف في منتصف الطريق بين الشعر والفلسفة. إن كلماته، متوهجة، فجائية، راعشة بحالات قلقها وجدتها وغرابة استعمالها، تبعث الرعشة الشعرية في النفس، وهي الأكثر قدرة على الإحاطة بالكائنات والأشياء من حولها، ومن تجارب الإنسان جميعها، دينية وسياسية وشخصية.
بسرعة بدأ محمود درويش حواره النقدي مع الأسلاف، وبحث الشاعر عن اتجاهه وطريقه في مجموعته' أحبك أو لا أحبك'، و'الكتابة على ضوء البندقية' و'أوراق الزيتون' ، تحولت القصيدة إلى أداة لا غنى عنها، إنها باتت تستخدم في غرض حيوي، بل بالإمكان القول إن مثل هذا الشعر كان من وحي الساعة، وعكس على طريقته الجانب الموقوت المحدود بالظروف السياسية والاجتماعية، فبدا بدوره موقوتاً ومرهوناً بظروفه - ولم يكن الاتصال من طابع القصيدة الفلسطينية في ما مضى من تاريخها، ولا أظن أنه كان طابعها في أدب من الآداب. لقد كان شعر درويش في تلك المرحلة شعراً يتسم بالجهد والعناء، لا يطفر طفرة حتى يتجاوزها، ولا يتصل بتراث حتى يعلن عليه القطيعة- أي انه كان مرهوناً بظروف بلده ومبدعه في أغلب الأحوال. لكن رغم هذه السمات إلا أن القصيدة الدرويشية لم تكن تهرب من مواجهة الأزمات، أو تنقل رد الفعل إلى عالم جمالي منعزل، بل رأينا أن مجموعات هذا الشاعر سرعان ما حظيت بالكثير من الإعجاب والاحترام والتقدير ولاقت نجاحاً نادراً وأقبل عليها القراء أيما إقبال 'حبيبتي تنهض من نومها'، و'محاولة رقم 7'، و'تلك صورتها وهذا انتحار العاشق'، مع هذه المجموعات طرأت على قصيدة درويش بعض التغيرات، كانت في مجموعها أقرب إلى روح المغامرة الجسورة، من دون أن تفقد هذه القصائد طابعها السياسي الملتزم. نعم في هذه المرحلة سطع نجم درويش وتوهج في سماء الشعر العربي حتى أوشك أن يطفئ كل ما عداه. لقد ارتبطت قصائده بموقف فكري وأخلاقي صلب لا يلين. وهذا هو الذي جعله من بين قلة بين شعراء وطنه الذين لم يضعف نتاجهم ولم يتغير أو ينقطع حتى بعد هجرته من وطنه فلسطين. أصبحت القصيدة عنده دعوة سياسية تهم الرأي العام، سلاحاً للكفاح في سبيل العدل والتقدم والتحرر والسلام، أداة للفعل والثورة والتغيير. واستقبل الناس في العالم العربي كله نموذجه الشعري المستفز المتحدي بالغضب أو الترحيب. وها نحن من جديد إزاء رسالة الشعر الذي يجب أن يكون عوناً على الفعل.
لقد ظل شعر محمود درويش في حركة دائمة وتحول لا يعرف الراحة أو الاستقرار، والكلام عن المدارس والحركات والاتجاهات في القصيدة الدرويشية أمر يوقعنا في التبسيط، ذلك أنه من أصعب الأمور أن نفرض على الشعر في عصر أو مرحلة معينة شكلاً ثابتاً أو قالباً جامداً، ولذلك يحسن بنا الحديث عن القصيدة الدرويشية، بدلاً من الحديث عن الشعر، فهناك القصيدة السياسية، وقصائد الحب، وقصائد الومض والحكمة والتوهج، وقصائد التجريب أو اللعب، وكل هذا يقودنا إلى قصائد التأمل أو الصمت إذا جازت التسمية. وفي كل مرحلة من هذه المراحل كنا نتعرف على محمود درويش صاحب الطموح الشعري الأعلى والوعي الشعري الأرقى والمعرفة الشعرية الأغنى. نعم محمود درويش الذي تمرد منذ بداياته على الرواد أعطى شعره شحنة تجريبية تجديدية جعلت الشعر يطرح أسئلته بطريقة مختلفة عن تقنيات الرواد. ففي شعر هؤلاء الأخيرين كانت الحداثة تحدد بالقافية والوزن، لكن عقلية القصيدة وروحيتها تكونان مختلفتين جداً ومكتوبتين بوزن حديث، أما مع درويش فقد اكتشفنا أن نظرته للحداثة مؤسسة على رؤية جديدة للعالم بما في ذلك النص الشعري وطريقة بنائه وطريقة استيعابه لعصره وطريقة إعادة الحياة إلى اللغة. الحداثة الشعرية عند درويش كانت تقوم على كيفية إعادة الحياة إلى اللغة على إيقاع زمن القصيدة الحديث، والتي هي في المحصلة إعادة نظر بالتراث والتاريخ ونقد الذات وفهم العالم الجديد.
نعم لقد أدرك درويش أن شعر الرواد كان تبشيراً بالحداثة أكثر منه تحقيقاً لها، لكنه رغم هذه المعرفة كان يدرك أيضاً أهمية الدور التاريخي الذي لعبته قصائد هؤلاء الرواد أمام الجيل الجديد الذي لم يحتج إلى أن يبرهن على شرعيته، ما دام هناك جيل سابق خاض هذه المعركة مع التقليد والقديم. هكذا ورث الجيل الدرويشي حالة شعرية شرعية، ولم ينشغل بالصراع مع العمودي ولا بالصراع مع الديني أو المقدس... إذ كانت الأرض ممهدة أكثر لأن يزرع الشعراء الشباب تجربتهم ويغامرون، لأن المناخ بات صالحاً للتجربة وأصبح أي اقتراح شعري حديث مقبولاً عند الذائقة العامة، إلى حد الفوضى أحياناً.
واللافت أن درويش الذي يملك حساً نقدياً عالياً قلما كتب شيئاً غير الشعر، بل هو من بين قلة من الشعراء الذين كتبوا شعراً أكثر مما تكلموا عن الشعر وأكثر مما اشتغلوا بالتنظير للشعر. إلا أنه لم يفعل ذلك من منطلق أنه من الصعب على الشاعر ناقداً أن يكون عادلاً مع نتاجه، ذلك لأنه من وجهة نظر درويش فان الشاعر الذي يقدم نظرية شعرية، مهما ادعى الموضوعية أو القدرة على التعامل مع نصوص غيره، سيكون مشغولاً أكثر بالتنظير لتجربته. وفي رأي درويش أن الشعر يقول نظريته أكثر مما تقول نظريته عنه، أي ان الشعر يقول عن الشعر أكثر مما تقول النظرية عن الشعر. مع درويش الشعر هو الذي يقول ذاته، وعلى المنظر أو الناقد أن يستنبط المفهوم الشعري عند الشاعر من خلال قراءته لشعره.
هل لهذا السبب عندما ينظر هذا الشاعر إلى الوراء لا يحس بالرضا أبداً؟! وهل لهذا السبب اكتشفنا مراراً أن درويش هو أكثرنا مقدرة على نقد ذاته وعلى اكتشاف ما ليس شعرياً في شعره؟ كان محمود درويش يملك القدرة على إعادة النظر في كل نص من نصوصه النثرية والشعرية على حد سواء. ولذلك كان يردد باستمرار أنه لو أتيح له أن يعيد كتابة ما كتبه فقد لا ينشر منها إلا نحو خمسة فقط.. هذا هو تواضع المبدع.
لقد اجتهد درويش كي يصل بقصيدته إلى مرحلة الشعر الصافي، رغم أنه كان يدرك استحالة هذه المهمة، لكننا حين نقرأ له ليس أمامنا إلا أن نصدق أنه موجود ، وأن هذه القناعة هي التي كانت تحرضه على مواصلة البحث والكتابة، وذلك بهدف إعطاء النص الشعري قدرات جمالية تسمح له أن يحقق حياة أخرى في زمان آخر، ليكون ابن تاريخه، وليستقل في الوقت نفسه عن تاريخه وظرفه الاجتماعي، وينظر إلى مستقبل غير مرئي. ومن دون أن يقتنع درويش بأن هذا المستقبل غير موجود إلا أنه كان أكثرنا تصديقاً أن الشعر يستطيع أن يتحرر مما ليس منه، وما ليس منه هو الراهن القابل للتبدل السريع. محمود درويش شاعر المعنى بامتياز، ومن وجهة نظره أن التمرد على المعنى هو تمرد على مفهوم حرية الإنسان ووجوده وإنسانيته، ورغم انحيازه الموضوعي إلى الكلام المفيد إلا أنه كان يدرك أنه في حياتنا المعاصرة تموت الكثير من المعاني الكبرى وتتساقط، لذلك حاول في شعره أن يقدم لا معنى مضاداً للامعنى الخارجي، وكانت قصائده تكشف عن شاعر يؤمن بحقه في العبثية واللعب، لأنه يعتبر أن هذه العبثية هي الرد الجمالي الأفضل على الفوضى السائدة أو سقوط المعاني الكبرى. والسؤال: هل هناك إمكانية معنى؟ يجب على الشعر أن يصدق أن هناك معنى، وكذلك على الإنسان أن يصدق، وإلا دخلنا في العدمية المطلقة، في اليأس من الحركة حتى، وهذا ما قاومه درويش في تجربته الإبداعية والإنسانية.
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس