عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 29-08-2009, 12:00 PM   #50
فرحة مسلمة
''خــــــادمة كــــــتاب الله''
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2008
المشاركات: 2,952
إفتراضي

(تابع)
ولم تكن هذه الصلة بالحديثة بعد رسول الله، كلا، فعمار كان مع رسول الله في كل حروبه، وفي كل أيامه، وكان يسمع عندما يقول كلمة عن علي فيحفظها، وعندما يشهد علياً وهو يخوض غمار الموت في سبيل الدعوة بإيمان وعقيدة فتنساب الشهادة من الرسول في حقه، فيلقفها عمار وساماً لا يعلوه وسام.
وعليّ لم يكن أقل معرفة بعمار من غيره.. فقد ملئ هذا الرجل المجاهد الصابر الممتحن قلبه وإعجابه.. وليس بالغريب أن يصبح أبو اليقظان من أصحابه أكثر قرباً، وأشد التصاقاً لعلي، وصي رسول الله، وإمام المسلمين..
واقتطعت السنون من أيامها حلوها ومرها، خيرها وشرها وعمار في خضمها صلداً لا تهزه الأحداث، ولم يجرفه الإغراء وإذا مرت به أيام محمد (صلّى الله عليه وآله) صعبة المراس لاقى في سبيل الدعوة كل أنواع التعذيب والأذى، حتى ذكر أنه (كان يعذب حتى لا يدري ما يقول).. فإن أيام علي (عليه السلام) لم تكن أقل منها محنة. من يوم أن غمضتا فيه عينا الرسول، حتى يوم استشهد في ساحة صفين.. وكان مع هذا كله يمثل الإنسان المجرب والفكر الوقاد، والشخصية الفذة لا تأخذه في الله لومة لائم.. وقد وقف فيها إلى جانب إمامه يفتح في نفسه أفقاً رائعاً لأبعاده الكريمة، ومن فكره رأياً صائباً لما تقتضيه مصلحة الإسلام..
إنه امتحان عسير تمر به الصفوة الطيبة من هؤلاء الأفذاذ الذين اتخذوا من عليّ ـ بعد الرسول الأعظم ـ مدرسة تنير لهم الطريق، وتبدد لهم حلكة المسيرة..
وإذا زهد علي في هذه الدنيا، بحيث لم يعطها من نفسه قلامة ظفره، فقد كان عمار على هذا الخط. عندما ولي الكوفة في عهد عمر بن الخطاب، سار فيها سيراً لن تجده إلا عند أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من العدل، وإحقاق الحق، ومكافحة الباطل وعدم الاهتمام بمظهر الدنيا، حتى يقول الراوي، وهو من أهل الكوفة: (رأيت عمار بن ياسر، وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره ويمضي بها إلى داره)!!!
ولم يكن عسير على عمار أن يتجبر ويتكبر، ويمشي خلفه الخدم والحشم في الكوفة وهو والي الكوفة، وأمير الجيش ومقرب الخلفاء، لكن لم يكن هذا أبداً.. فهو من مدرسة ذلك الإمام الذي يقول للدنيا: غري غيري، أما هو ففي ذات الله خشن.. ويعمل ويأكل من عمل يده، ولا تطمع نفسه إلى بيضاء وصفراء..
وطلعت شمس، وغربت شمس، وعلى الشفاه أكثر من سؤال؟ متى تتحقق نبوءة الصادق الأمين، وهو (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى) - النجم: 4-: (ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباغية).
وتبقى هذه الكلمة الخالدة في آذان المسلمين حية تنتظر اللحظة الحاسمة.. وعمار قد ذرف على التسعين من عمره، أو تجاوزها بقليل. والأيام حافلة بالحوادث، وكل يوم له فيه حساب.
ولكنه يوم ولا كالأيام، يزخر بالأحداث ويمطر بالمآسي.. فمعاوية بن أبي سفيان قد دفعته الغيرة المفتعلة للأخذ بثار عثمان ولم تكن الحقيقة، إنما هو التضليل للسذج من الناس.
ولم يكن الواقع إلا ما قاله أبوه بالأمس، حينما تولى الخلافة عثمان والتف حوله من الأمويين، يخضمون مال الله خضم الإبل فيلتفت أبو سفيان، وقد أرهقته السنون وأتعبه الحقد، يقول للمجتمعين حول الخليفة: فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار، تلاقفوها يا بني أمية.
ومعاوية على هذا الأساس خطط وفي هذا الضوء سار.. واليوم قد حان فيه الانقضاض، وعلي بيده الخلافة، وهو يعلم أن ابن أبي طالب صعب المراس لم يخضع للعاطفة، ولا ينقاد للمقتضيات، والناس لا يسعدهم هذا اللون من المسيرة، فليقتطف المناسبة، ويستغل الفرصة، ووقتها حان.
وليرفع شعار (يا لثأر عثمان) وليكن من قميصه المدمى ما يعلن الحرب ويلهب الفتنة، ويثيرها عجاجة تأكل الأخضر واليابس.
وفعلاً كان ما أراد..
وعمار، وأمثال عمار لم يكونوا بالسذج والمغفلين، فقد عرفوا الحقيقة الكامنة وراء ثورة طاغية الأمويين، فالحقد الدفين بين الهاشميين والأمويين لم تخمده الأيام فهي جذوة تأكل قلوب الحاقدين، وتمتص رؤاه.
وإذا كانت (صفين) بعد حفنة من الأيام، مرت ثقيلة السيرة مكدودة الضوء، فقد تفتحت الجراح شموخاً، وتعملق الجهاد عنفاً.. وليس غير السيف بين هذين المعسكرين حكماً.
ويقف عمار وهو الرجل الذي واكب الأحداث، وعرف مقاصدها بكل روية وسط قومه خاطباً، وموجهاً:
(انهضوا معي عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم، إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان، الآمرون بالإحسان فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم، ولو درس هذا الدين: لم قتلتموه؟ فقلنا: لإحداثه، فقالوا: أنه يحدث شيئاً، وذلك لأنه مكّنهم من الدنيا، فهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انصدمت الجبال.
والله ما أظنهم يطلبون بدم، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها، واستمرءوها. إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة والولاية، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: قتل إمامنا مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً، تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ولولاها ما بايعهم من الناس رجل..
اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم...
ثم سكت برهة، ودنا من عمرو بن العاص، فقال: يا عمرو بعت دينك بمصر، فتباً لك! وطالما بغيت للإسلام عوجاً..
ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت..
اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني، ثم أنحني عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت..
اللهم إني أعلم مما علمتني أني لا أعمل عملاً صالحاً هذا اليوم هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك منه لفعلته..
ثم صفّ جيشه، ورفع رايته، وهو يرسل نظراته في جيش الشام، والقوم حوله منصتون، ويهز رايته، ويصيح ـ وكريمته البيضاء تزيد في هيبته ـ:
(والذي نفسي بيده.. لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وها أنذا أقاتل بها اليوم...
والذي نفسي بيده.. لو ضربونا بأسيافهم، حتى يبلغونا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على حق، وإنهم على باطل)..
وزحف إلى الحرب، يرف برايته، وهو يجول وسط المعارك، ويقول: إن يومي لقريب..
ولملمت الشمس أبرادها على صورة عنيفة من الجهاد بين الحق والباطل في صفين، ويسقط عمار مضرجاً بدمائه، متوّجاً بجراحه، وهو يطلب الماء، وقدم إليه ضياح من لبن..
فصاح عمار، وهو في غمرة الفرحة ـ وإن كان يصارع الموت ـ:
(صدق حبيبي رسول الله: آخر شرابي من الدنيا ضياح من لبن، ما أسعدني، وأنا أموت على الحق، وعدوي على الباطل).
وتقف أنفاس البطل المجاهد في ساحة الجهاد. ويختم الجندي الباسل حياته بين يدي العقيدة، ربط حاضرها بماضيها وطرز سلسلتها الزمنية بكل ما يشرفها..
بالأمس بدأ الكفاح بين يدي محمد (صلّى الله عليه وآله)، ويختم اليوم البطولة بين يدي علي (عليه السلام).. وهكذا تلتقي السلسلة، وهي وحدة تمثل رائع البطولة، وصدق الفداء.
وتبقى ذكراه الغالية في البطولة والتضحية نور يستضيء به السائرون في ركب الكفاح عن العقيدة.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 142) صدق الله العلي العظيم.
__________________








فرحة مسلمة غير متصل   الرد مع إقتباس