عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 30-08-2009, 03:13 PM   #43
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


29ـ أحرار وغير متساوين


كان (نيتشه) عدواً للديمقراطية والعقلانية، وكان يتطلع الى ميلاد أخلاقيات جديدة تنصر الأقوياء على الضعفاء، وتزيد من اللامساواة الاجتماعية وتخلق نوعاً من القسوة، كانت ملاحظاته حادة حول إضفاء قيمة على الأشياء التي لا يتحملها إلا الأقوياء، فهو مع قتل العجزة والمسنين والضعفاء، ليبقى من يبقى بعد أن عانى وكابد في الوصول الى ما وصل إليه. [هذا نمط مفهوم الاعتراف عند نيتشه وهو يختلف عن مفهوم هيجل].

(1)

وضع فوكوياما ملاحظاته على نظرة (نيتشه)، وهو يقول أنه لسنا مطالبين بالموافقة عليها، خصوصا تلك المتعلقة بكراهية الديمقراطية والعقلانية. ولكن ذكر تلك الومضات من فلسفة نيتشه يراد منها التأسيس الى ما بعده فيما ستؤول إليه نهاية التاريخ.

يقر فوكوياما بأن ما ذهب إليه نيتشه في السخرية من المساواة والعدالة التي تنادي بها الديمقراطية، واللذان لن يتحققا إلا نظرياً. فالمناداة بالعدالة المطلقة ستصطدم بعوائق طبيعية، فلم تفلح الشيوعية بإزالة الطبقات والفوارق الاجتماعية طيلة نضال قرن ونصف، ولن تفلح الديمقراطية في إشاعة درجة متساوية من الاعتراف لكل أبناء البشر.

فلن يُعقل أن يتساوى رجلٌ مقطوع الساقين مع رجل رياضي كامل، ولن تختفي ملامح جمال الأنثى وتميز واحدة على أخرى، ولو حدث أن انتشرت تلك المساواة المزعومة، فإن الفن والإبداع سيختفيان، فلن يكون هناك متسابقون في تحطيم الأرقام القياسية، أو التأليف الموسيقي أو الاختراع، طالما أن كل الناس أصبحوا متشابهين.

لم تكن الديمقراطية الليبرالية جادة ـ أصلاً ـ في استئصال (الميجالوثيميا: أي الرغبة في نيل الاعتراف بالتفوق على الآخرين) وتحويلها الى (إيسوثيميا: أي الاعتراف المتساوي لكل المواطنين). بل كانت تبرر ميلها الى (الميجالوثميا) كونها تشجع التفوق الإنتاجي والاقتصادي العام في النهاية.

(2)

لم تكن الديمقراطية الليبرالية لتعتبر أن اقتناء عدد من القصور والمزارع التي أتت أثمانها نتيجة جشع أصحاب الأموال والمصانع، بأنه أمر خطير وسيء، طالما أنه يزيد الإنتاج في الدولة ويرفع قدر الرفاهية. إذ أنه بالنهاية لا يمكن للفرد أن يقتني من القصور والزوجات والسيارات الى ما لا نهاية من الأعداد، أي أنه سيتم اقترابه من الإشباع في لحظة وتصبح أمواله رمزاً سياديا للدولة، ومقياساً رمزياً للاعتراف به كفرد.

إن أهم ما تخطط له الدول الرأسمالية الديمقراطية مثل الولايات المتحدة، هو أن يتجه أكثر الأفراد نبوغاً وطموحا الى الاشتغال بالتجارة والصناعة، لا بالسياسة ولا في الجيش أو الجامعات أو الكنائس، لأنهم لو فعلوا ذلك لكثرت الاضطرابات الناتجة عن تحالف الفكر مع المال.

(3)

لقد وفرت الديمقراطية الحديثة منفذاً للطبائع الطموحة، فالانتخابات نشاطٌ (ثيموسي) حيث أن الشخص ينافس آخرين على نيل اعتراف الجمهور على أساس من الآراء المتصارعة عن الحق والباطل، والعدل والظلم.

غير أن واضعي الدساتير الديمقراطية الحديثة مثل (هاملتون وماديسون) أدركوا الأخطار المحتملة للميجالوثيما في السياسة. وكيف أن الطموح الاستبدادي النزعة قد أفلح في هدم الديمقراطيات القديمة. لذا فقد أحاطوا القادة في الديمقراطيات الحديثة بهالة من القيود التنظيمية على سلطاتهم. وأول هذه القيود وأهمها هو بطبيعة الحال مفهوم السيادة الشعبية.

إن رئيس الوزراء، هو المدير التنفيذي وهو الخادم الأول للشعب، لا سيده. وعليه أن يستميل عواطف العامة سواء كانت دنيئة أو نبيلة، جاهلة أو واعية، وعليه أن يقدم على الكثير من التصرفات الدنيئة والحقيرة حتى يبقى في المجلس!

(4)

في ميدان السياسة الخارجية بالأخص، فإن بوسع الساسة الديمقراطيين أن يحققوا درجة من الاعتراف غير متوفرة في الميادين الداخلية، ذلك أن السياسة الخارجية كانت ولا تزال من أهم الميادين للقرارات الهامة وتصارع الأفكار الكبيرة.

لقد صنع قادة تاريخيون لنفسهم مجداً سيظل يعيش بعد مماتهم لفترات طويلة، وهذا ما فعله ونستون تشرشل بتحالفاته المعقدة للانتصار في الحرب.

وقد تذهب الخسارة في الحرب بسمعة رئيس أو قائد بنفس القدر الذي يرفع فيه الانتصار من شأنه.

(5)

بعيدا عن السياسة والاقتصاد والحروب، فإن (الميجالوثيما) ستجد لها منافذ كثيرة في الرياضة وتسلق الجبال وسباق السيارات وما شابه ذلك. فالفائز سيحقق لنفسه إشباعا باعتراف الآخرين بتفوقه.

وهنا ربما تكون العودة الى الاعتراف بمقولة (نيتشه) عن الناس الأقوياء والقساة، لها ما يبررها، إذ أن السباق الرياضي أو تسلق الجبال، يحتاج مزيدا من التمارين الشاقة حتى يبقي الجسم بلياقته، وهذا لن يتحقق إلا للأشخاص الأسوياء الأقوياء المحافظين على تدريبهم المستمر.

ولو تم إسقاط ذلك على الحروب لصح القول، فالجنود الذين لم يتدربوا جيداً هم عرضة للقتل أو الإصابة، أكثر من المتدربين تدريبا قاسيا.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس