الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 20-02-2006, 01:52 PM   #9
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(8)

كان إذا دخل محل لبيع الأقمشة ، أو الملابس الجاهزة ، سواء مع والده أو والدته ، أو عندما شب و أصبح يشتري لوحده دون مساعدة من يكبره . كان يحس أنه أصبح أسيرا لصاحب المحل ، أي محل من تلك النوعية ، فكان يؤخذ برائحة المحل التي تنبثق من المواد الحافظة للأقمشة ، إضافة لبعض البخات التي كان يبخها أصحاب تلك المحال لتدويخ عملائهم أو زوار تلك المحلات .

كان لابتسامة أصحاب المحلات ، و تحركهم بسرعة ، ضمن حركات كرروها مرارا ، وتكلمهم بجمل قصيرة كأنها برقيات ، ولكن رغم قصرها ، فقد كانت وتكون مؤثرة في نفس المشتري ، خصوصا عندما تتبعها حركة سريعة ، يلتقط البائع فيها ، نموذجين أو ثلاثة من القطع التي في الرفوف ، ويفردها أمام المشتري ، إن كانت قماشا ، أو يمسكها من طرفها و يفركها أمام من يراقبه ، لتترك تأثيرا يأسره ، فيغوص المشتري في أعماق رصيده اللغوي ، فلا يخرج إلا بطلب هامشي ، كأن يقول للبائع هل عندك أفضل منها ؟ أو يجب أن تراعينا فنحن نحب أن نأتي الى محلك ..

وكان البائع ، بعد أن يتفقد تأثير حركاته ، ويتفحص نوعية طلب المشتري ، يحس بنشوة الانتصار و نجاح أسلوبه ، فيركض و يأتي بقطعة من نفس المطروح على طاولة العرض ، ولكنها تختلف في اللون أو النموذج ، ويتركها أمام المشتري و يسمر نظراته تجاهه مبتسما ، ومتبعا تلك النظرات ، بإغداق الوصف والتوقير للمشتري ، بأنه صاحب ذوق و ذكي ، فلذلك أتى له بتلك القطعة ، ويسارع لاستثمار حالة الانتشاء عند المشتري لسماعه مدحه من قبل البائع ، ويهمس بصوت لا يكاد أن يكون مسموعا ، صحيح أن ثمنها أغلى من الأولى .. لكن ثمنها فيها !

فيتشبث المشتري بالقطعة ، ويطالب تخفيض الثمن لتكون معادلة لسعر شقيقتها التي رفعها البائع من أمام المشتري ، استبعادا لاحتمال التعرف عليها بأنها لا تختلف عن التي يتم التفاوض عليها ..

كل تلك الصور ، أثرت بصاحبنا ، كما أثرت حالات الغنى والترف التي يعيشها هؤلاء التجار .. فصمم أن يمتهن مهنتهم ، ويستفيد من كل تلك الملاحظات التي تكونت لديه ، وكأنها دراسة جدوى اقتصادية ..

كان محله الذي أسسه ، يتفوق على المحلات التي كان يتجول فيها طيلة حياته ، فالديكور لامع وراقص ، واسم البوتيك حديث وراقص أيضا ، وهناك تنبثق موسيقى في زاوية ما توحي بروحية الشباب ، وقد رش بعض أصناف العطور المؤثرة في نفوس المشترين ، ولبس بلوزة قاتمة فضفاضة دون قميص تحتها ، وكانت قبتها مفتوحة لتسمح لسلسال ذهبي أن يظهر من خلالها على رقبته الشقراء ، وكان يضع على شعره بعض الدهون التي تبقيه لامعا ومنتصبا للأعلى ، ولم ينسى أن يستعين بفتاة محجبة ، وكأنه قد وضع صنفا للعملاء رسمه في ذهنه كجزء من دراسته للجدوى الاقتصادية ، كما أنه خصص محله لبيع الألبسة الجاهزة للفتيات ..

دخل رجل في الستين بعد إلحاح ابنتيه عليه للمرور على محل صاحبنا ، فتلقتهم الفتاة المحجبة ، تطلب منهم أن تخدمهم ، في توقف الوالد مع البائع الشاب الذي ناقشه في سبب اختيار اسم هذا المحل ، الذي لم يعجب والد الفتاتين إذ أحس أن أمور البلاد آخذة في التدهور ، من خلال اسم هذا المحل وديكوره !

تلعثم الشاب ، فلم يكن بحسبانه أنه سيواجه بهكذا ملاحظات منذ اليوم الأول فابتسم و طلب من الرجل الجلوس لكي يضيفه بفنجان من القهوة ، ولكن صرامة الرجل ، وعدم انتباهه لطلب البائع له بالجلوس ، قد تركت أثرا غير طيبا في نفس البائع ..

دخلت ثلاث فتيات ، توزع نظراتهن في أرجاء المحل ، كأنهن فرقة تمشيط جاءت لتطهير هذا المحل في مهمة من حرب الشوارع .. انطلق الشاب نحوهن تاركا الرجل في تساؤلاته ودهشته ، ليقرر أن يتجه نحو باب المحل كأنه غواص يخرج بين حين وحين من الماء ليتنفس .. في حين كانت ابنتاه لا تزالان في حديث بيع وشراء مع البائعة المحجبة ..

ذهب الشاب الى الفتيات الثلاثة ، بعد أن أوقف جهاز الموسيقى ، وتحدث مع الفتيات كأنه في حالة مراقبة حثيثة من الرجل الواقف عند الباب ، فكان ينتقي الكلمات المهذبة المحتشمة ، وتمنى لو أن رأسه مغطى بطربوش أو يشمغ ، حتى يداري مضايقات نظرات الرجل القليلة ، ولكن معانيها قاتلة ..

صاح الرجل بابنتيه مستفسرا ، عما اذا أكملتا الشراء ، فلم يلقى إجابة ، كانتا في كابينة لقياس الملابس ، في حين دخلت امرأة مع بنتها الى المحل ، وحديث جار بينهما ، دون أن يمنعهما المحل عن مواصلته وان كان قد بدأ منذ ساعة .

أحس الرجل والد البنتين ، بأن استغرابه لم يعد ضروري ، و أحس صاحب المحل الشاب بأن ملاحظات الرجل لا تقدم ولا تؤخر ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس