الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 17-02-2006, 07:51 PM   #8
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(7)

كان عندما يعود الى بيته ، يحرص أن يعود بملابسه العسكرية ، فكان يحس بنشوة عظمى وهو لابسها ، ويسير بين الناس ، و أحيانا يحضر بعض الدعوات الخاصة أو العامة بتلك الملابس ، بحجة أنه قد عاد للتو ، وخشي أن لا يتمكن من استكمال ملابسه المدنية ..

حتى صوته وكلماته وطريقة نظمها ، كانت تتماهى مع ملابسه والشارات التي تدل على رتبته من نجوم وغيرها التي تبين رتبته .. فكان يريد القول لمن ينظر اليه إنني أأمر على مجموعات تفوق عددكم ، وهم يؤدون لي التحية بانضباط كبير .. وهم أكثر أهمية منكم ، لأن من بينهم عشرات تأمر على أعداد تفوق أعدادكم ، وهم من يجلبون لكم الأمن وهم من يحموا استقراركم فاحترموني ، فأنا أهل للاحترام !

لم يكن يدور في خلده أن تقدمه في الجيش سيتوقف في لحظة ما ، فقد كان يعتقد أنه سيصبح يوما ما قائدا مهما ، وليس مهما أن تكون تلك الأهمية تنبع من إنجازات عسكرية ميدانية ، أم لا .. فالمهم أن تزداد الشارات والنوط التي توضع على ملابسه لتدلل على ذلك ..

ولم يكن يدور بخلده ، على وجه التحديد ، الفقه الذي يبقي العسكريين يتقدمون في رتبهم ، فقد كان يعتقد أن إعلان الولاء لقيادته ، والانضباط العسكري وحسن السلوك هي عناصر كافية لتحقيق ما كان يصبو اليه .. في حين أن القيادة تعتمد أساليب معقدة توارثتها من تاريخ طويل للفقه العسكري ، منذ انتهاء عهد المماليك وحامياتهم ، الى عهد العثمانيين و نقلهم لأبناء المناطق ليخدموا في مناطق بعيدة عن مناطقهم ، حتى لا تسول لهم أنفسهم أن يكونوا مصدرا لهواجس أمنية تثير قلق السلطان والولاة . الى عهد المحتلين الأوروبيين الذين قدموا الأقليات الطائفية و الإثنية لتتولى قيادات الجيش ، ولا تتباهى بوضعها كزعامات تقليدية لها امتدادها الشعبي .

أما قيادته فقد ورثت من كل هذا شيئا ، و أضافت عليه معادلات ، احترفتها لوقف حالات الانقلابات التي شاعت في أواسط القرن العشرين .. فكانت تراضي الزعامات التقليدية والإقليمية بمراكز حكومية مدنية ، وتنتقي أكثرهم حرصا على ديمومة الوضع في المراكز العسكرية ..

عندما تلقى أمر التقاعد ، احتاج كثيرا من الوقت للتكيف مع الواقع الجديد فلم يعد هناك من يزلزل الأرض من تحته وهو يؤدي له التحية ، فأصبح يمر بالناس فلا يقوموا بوجهه احتراما و أحيانا يتكاسلوا في رد السلام ..

كبر أطفاله ، وكبرت مسؤولياتهم ، وشارف رصيده من الهيبة على النضوب ولم يعد راتبه التقاعدي يكفي لتغطية كل مهام أسرته التي لا تختلف عن باقي الأسر في الطلبات ، ولم يكن محظوظا كبعض زملاءه المتقاعدين في أن ينسب لأحد الدوائر المدنية ، ولا أن يحظى بطلب من مؤسسات أهلية لتقديم خدماته ، ولا أن يذهب لأحد الدول العربية التي تطلب أمثاله من ذوي الخبرات المطلوبة ، وكل ذلك كان كما يبدو مربوطا بنفس قواعد التأثير الواجبة لتحقيق مثل ذلك .

وكونه لم يحظ بقدر كاف من المعرفة بطبائع تلك الأمور ، فقد انخرط مدنيا بنقد مظاهر الترهل العربي الرسمي ، بل وانخرط بالحياة المدنية العامة ، فأخذ يحضر الندوات ويبتسم لكلام المحاضر الناقد .. كل ذلك باعد بينه وبين أن يحظى برافد جديد عملي يرفد وضعه المالي غير الكافي ..

علا صوت زوجته شيئا فشيئا ، تطالبه بالخروج مما هو فيه ، ثم أصبح كلامها يؤلمه جدا ، فكان له أخ أمي لكنه ناجح في عمله ، فيدس له بعض المبالغ بالسر لكي يخرج مما هو فيه ، وكان تصرف أخيه الذي يصغره ، تصرفا نبيلا لم يحسسه بأي منة ، لكنه كان يتألم وهو يقبل مساعدة أخيه ..

كان على استعداد للقبول بأي عمل بعد تلك السنوات الستة التي قضاها بعد تقاعده ، مقابل أي مبلغ للخروج مما هو فيه ، أو للخروج من بيته بأي حجة للتخلص من نظرات وكلمات زوجته غير الصابرة ..

قبل بعرض أحد أصدقاءه ، بالعمل لديه بصفة مدير أحد فروع شركته ، وكان لصديقه شريك عسكري متقاعد كان دوره تنفيذي ، وكانت رتبة الشريك الذي يكبر صاحبنا بعشرة سنوات على الأقل ، أدنى من رتبته بستة أجيال من الرتب .

لم يكن يدري ، كيف شكل دور الشريك ، وكيف سيحتك به ، وان كانت كل الأمور توحي بأنه لن يحتك به ولن يكون على تماس معه ..

لكن شاءت الأمور أن يبتدع الشريك ذا الرتبة العسكرية المتدنية ، أن يذهب لساحة عمل صاحبنا ، ويفتح نصف زجاج شباك سيارته ، دون أن ينزل ، ويسأله سؤالا ، لم يكن السؤال بتلك الأهمية ، بل كان السؤال فقط من أجل صراعات التذاوت ( توكيد الذات ) .. ليقل له ( صامتا) : أنظر لقد كنت أنت تأمر على مسئول مسئولي ، و الآن أنا أتلذذ بالأمر عليك ..

ذهب صاحبنا لصديقه ، يعتذر عن مواصلة العمل ، ولكن صديقه وعده أن يحل تلك المسألة بعد أن فهمها ، ففض شراكته بمن أراد أن يهين صديقه !
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس