الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 16-02-2006, 02:14 PM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(6)

كان يختفي تحت جناح والده ، تحت رداء سميك وواسع يصنع من جلود الخراف ، حيث يكون الفرو للداخل والجلد المغطى بقماش سميك قاتم للخارج ، وكان هذا النوع من الفراء ، يصنع بشكل فضفاض ، ليبقى يحمي من يحتمي به أن يبقى يغطيه وهو في كل الأوضاع ، سواء كان يجلس أو يمشي ، أو راكبا على فرس ، ولما كان والده ليس بصاحب حجم ضخم ، فقد كانت الفروة كافية لاستيعابه مع والده ..

كان يراقب من خلال إطلالته من تحت الفروة ، وكأنه وليد كنجر ، يطل من جراب أمه ، كان يتابع حركة والده العابثة بملقط لتحريك الجمر في الموقد الذي أنشئ في مكان ما في المضيف ، ووضعت عليه دلال القهوة ، وامتلآ بالرماد الأبيض . وفي المقابل جلس الرجل الذي يستمع لحديث والده في الجهة الأخرى للموقد ، وكان يتناول من والده بين حين وآخر رشفة قهوة في فنجان .

كان الطفل الذي لم يكن عمره يزيد عن عشر سنوات كثيرا ، يستمع لأحاديث ، قد يكون سمع بعضها أكثر من خمسين مرة ، فكان اذا انشغل والده بالسعال أو العطس ، بإمكانه أن يكمل أي قصة بدأها والده . كما كان من يستمع للحديث قد استمع اليه سابقا ، أكثر من مرة ، لكن لم يكن ليتذمر ، فكانت هذه من عادات الفلاحين الذين يحظوا بوقت فراغ كبير في بعض الشهور ، فليس هناك روافد تجدد الأحداث و الأخبار لديهم ، فلم يكن التلفزيون قد انتشر ، وكان هناك قليل من أجهزة الراديو في القرية التي لم تكن قد وصلتها الكهرباء بعد ، ولم يكن من السهولة اقتناء راديو في البيت ، وان تم اقتناؤه فان الأوقات التي يفتح بها قليلة توفيرا لطاقة البطارية الجافة ، وان فتح الجهاز فان من المتعذر فهم ما يقول وعن أي شيء يتحدث ، فمعرفة الناس محدودة بالأماكن ، فهي لا تتعدى دائرة قطرها خمسين كيلومترا ..


لفت انتباه الطفل (الكنجر) أن والده كان يتكلم بفرح ظاهر ، فأمعن ليعرف سر هذا الفرح ، فاكتشف أن والده يبشر ضيفه بموسم خصب ، حيث أن كمية الأمطار كافية لأن يستبشروا بموسم جيد ، وكان الوقت هو منتصف شهر شباط (فبراير) .. و حسب تقويم الفلاحين فهم في بداية ( سعد بلع ) .. حيث كانوا يقسمون الشتاء الى ( مربعانية و خمسينية ) والخمسينية تقسم الى أربعة أقسام سعد ذابح وتبدأ من بداية فبراير (شباط) ثم سعد بلع ثم سعد السعود ثم سعد الخبايا .. وكل قسم من هؤلاء عليه عشرات الأمثلة والقصص والمناسبات التي حفظها الطفل عن ظهر قلب ..

انقلبت فرحة والده بالموسم ، الى هم كبير بالنسبة له ، فهو لم يكن يرغب بسماع مثل تلك الأخبار ، لأنها ستكون عبئا عليه ، فبعد أن تنتهي السنة الدراسية ، فبدلا من أن ينعم بعطلة صيفية عابثة ، سيقضي تلك العطلة في عمل شاق ، وهو ( الدراس ) و استخراج الحبوب من المحاصيل المحصودة والمنقولة للبيادر ..

لم يكن أهل الريف يلتزمون بسن العمل ، فمن يستطيع الحراك عليه أن يعمل الرجل و المرأة ، الشاب والفتاة ، الشيخ والطفل .. فكل واحد سيجد له مهمة تتناسب مع إمكانياته البدنية .. فلذلك كانوا قريبين من التجانس والتساوي ، فلا تستطيع تمييز أحد عن آخر ، لا بسلوكه ولا بكلامه ولا برائحته ..

جاء الموسم ، وباشرت السيارات بنقل الزرع الناضج والمحصود بقشه وسنابله ، وكانت السيارات هي التطور الجديد في عملية النقل وكان يطلق عليها (الرجاد) .. وكانت تتم قبل أن يخلق هذا الطفل بواسطة الجمال (الإبل) ..

امتلأ البيدر بالحصيد ، وتكونت جبال من أكوام الزرع المرجود ، والطفل يتطلع بحسرة ويتساءل : متى سأنهي أنا و أخي طحن كل هذه الجبال واستخراج الحبوب والتبن منها ؟ لقد كان مثقلا بهم وهو ينظر اليها ، كمن يسير في البراري في وقت صيف وينظر بعيدا الى القرية ، متى سأصل الى تلك القرية وأشرب الماء و أرتاح ..

ما هي الا ايام معدودة ، حتى جاء ابن عمه وزوج أخته ، وتناول أداة اسمها (شاعوب ) وهي قطعة من حديد صلب لها أربعة أصابع أطول من الشبر قليلا ، وترتبط بذراع خشبي أطول من متر ونصف .. فهدم أحد أكوام القش ، وقسمه الى عدة أقسام ، كل قسم اسمه (دور ) و أحضر بغلة فتية ، وضع على رقبتها أداة تسمى (الحواة ) يربط بها ذراعان خشبيان وتتصل بقطعة مكونة من أجزاء من خشب السنديان أو الجوز .. ومثبت في أسفلها ، قطع من الحجارة البركانية السوداء ، لتكسر و تسحق القش ..

طلب من الطفل الجلوس على (اللوح) والتمسك جيدا ، و أخذ الرجل طرف الحبل المتصل برأس البغلة لتوجيهها ، ووقف بمنتصف القش و نهر البغلة فكانت تركض وتلف فوق القش والطفل متمسكا باللوح جيدا .. وبعد قليل أعطى طرفي الحبل ( المقود ) للطفل .. ونهره أن يقوم بتلك العملية ..

لقد اكتشفت البغلة أن من يقودها الآن هو غير الذي كان يقودها قبل قليل ، رغم أنه قد وضع على رأسها قطعة من جلد لا تسمح لها الا لرؤية ما أمامها ، لكنها بمهاراتها (البغلية ) اكتشفت من صوت الطفل الذي كان يقودها ، وقوة يديه أنه قاصر .. فتبسمت البغلة و ضمرت له عنادها (البغلي ) ..

لم تكن يداه الناعمتان قادرتين على الصمود طويلا ، لعناد تلك البغلة فتكونت فقاعات على جانبي راحة يده اليمنى ، نتيجة احتكاك الحبل بها ، ومعاندة البغلة ، ويسمع بين حين وآخر صوت زوج أخته من مكان في البيدر ، حيث يقوم بعمل خاص به ..( سوق .. سوق ) أي هيا قم بعملك !!

ما هي الا لحظات ، حتى طلب منه أن يوقف الحركة ، و يأتي لتناول طعام الغداء ، فتنفس الصعداء ، لكن مع تيقنه أنه لا مناص الا أن يتم سحق كل تلك الأكوام من القش !!
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 16-02-2006 الساعة 02:36 PM.
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس