الموضوع: كُنْ في غدي
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 09-10-2010, 05:19 PM   #6
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

في خضم هذه أحداث هذه الحياة وأتونها المشتعل على الدوام
يحتاج الفرسان إلى ساعات يستروحون فيها بعد معارك دامية
في سبيل الحرية الحق العدل الجمال ، ومن هنا فإن هذه النزعة
نحو الرومانسية والتمتع بمباهج الحياة وجمالياتها تعد ذات طابع خاص
بعد أن يكون القارئ قد تعود على سلسلة من القصائد تضرب بجذورها
في عمق معاناة الإنسان ،فلا يجد إلا أن يقول للمبدع : أيها الفرس لك
الحق أن تصهل قليلاً أمام غروب الشمس ، وأن تستمتع بربت المحبوبة
على ظهرك ، ذلك الذي لطالما حمل صهوة الشمس ولما يرها..

روعة الرومانسية تتبدى في التعبير كن في غدي ليكون الغد هو ذلك
الليل الباحث عن نجمه ، والبحر السائل عن زورقه ، والبستان المشتاق
إلى ورده .. كأننا أمام رقصة التانجو التي لا تؤدى إلا باثنين معًا ،وقد وجد
الشاعر نفسه وحيدًا ليس معه من يراقصه هذه الرقصة فاستدعاه كن في غدي ويأتي
السطر التالي له (فغدي بغيرك لا يكون ) ليعبر عن هذه الثنائية التي لا تنفصم كما
روح وجسد ونفس ونَفَس ، وقافية النون الساكنة المسبوقة بحرف الواو أشعرت القارئ
بالاستقرار والسكون بل ، وطول الشوق المنبعث من حرف المد الواو الذي هو أقرب
الحروف إلى شكل القُبلة.
كُنْ في غدي
فغدي بِغَيْرِكَ لا يكونْ

ويبدأ استخدام الضمير المنفصل أنت ليفيد به حالة من التخصيص والضمير
خبره محذوف تقديره (فقط ) أي أنت فقط الذي ...،وهذا أدعى للشعور بهذه
المكان الفريدة التي يحتلها المعشوق في داخل عاشقه، وعلى الرغم من أن التعبير
لم يكن فيه إضافة جديدة ويعد مستخدمًا من قبل إلا أنه في ذاته أدى إلى استدعاء
شاعرية الحال والموقف ، وهذا أمر ضروري للقارئ أن يستوعبه ، وهو أن الشاعر
ليس ملزمًا بأن يستنفد جميع ما في الأرض من صور ومجاز ، بل إن الحالة قد تكون
على درجة من البساطة واليُسر بما لا يحتاج إلى إثقالها بالصور ،وليس أدل على ذلك
من قصيدة (خدعوها بقولهم حسناء ) لأحمد شوقي رحمه الله .إذًا يُحسب للشاعر هذا
القدر من التوازن في استخدام أدواته الشعرية وفقًا للمناطق والمراحل الشعورية
التي تمر بها القصيدة.
أنْتَ الّذي ...
رَسَمَتْ مَلامِحَهُ
معاني الحُبِّ في قَلْبي
فأيْنَعَ زَهْرُهُ
شوقا إلى الْقَلْبِ الْحَنونْ

ينتقل الشاعر بنا بعد ذلك إلى منطقة أخرى كأنه حامل العدسة فوق كتفه
ويراقب حركة الحبيبة رقابة مجهرية ، ليرصد حركتها في أدق تفاصيلها
لتكون سارية في وريد الحرف ، وما أجمله من تعبير تشكيلي يعبر عن هذه
النزعة العبقرية التي يتكئ الشاعر عليها بشكل أساسي في قصائده وليته يشرح
بنا بعضًا من ارتباط الصورة الشعرية بالتشكيلي على وجه الخصوص..
ما أجملها من تعبيراتا "لسريان في وريد الحرف "إذ تكون المحبوبة هذه الدماء
التي تغذي جسمه؟ كلا تغذي حرفه ، تلك الحروف التي ارتبط الشاعر بها
حتى صارت كأنها جسم حقيقي يشاهد هو حركتها في داخله كريّة من كريات الدم.
ولا تتوازى حركة المحبوبة مع حركة الفكر الذي يسافر أو تعانقه الظنون (ولا داعي
لإعادة وتكرار شرح جماليات الصور على هذه الشاكلة)بل تسير في اتجاه عكسي
يمكن تشبيهه بقوات الإنقاذ التي لا تأتي إلا في حالة اقتراب وقوع المشكلة ، كذلك
المحبوبة تأتي منقذة للحبيب في وقت أن ييأس أو يواشك اليأس الدخول إليه ،لاسيما
إذا كان الشجن هوذلك الفتاك الذي ينتظره. آه ما أتعب حياة الشعراء ، شجن في أحسن الأحوال ؟ولا نجد بعد ذلك إلا ختامًا رائعًا يعبر عما يمكن تشبيهه بحركة الأفراد
داخل القصيدة ، إذ تستمر حالة البُعد التي تؤرق الشاعر وكأنها تيار مضطرب
حتى يناديها اسكن بصيلات القصيدة ، وامنح السطر الجنون .تشعر أن الشاعر
ما زال مبحرًا يبحث عن في زورق قصيدته الحائرة عن بوصلة لتكون هي
هذه المحبوبة ، وما أروعه من تعبير إذ تصير القصيدة زورقًا بل وتكون المحبوبة
بوصلة تهديها ببساطة لأن المبدع هو في واقع الأمر قصيدة بشرية تمشي على الأرض!
وتتلاقى حركتان عكسيتان ، يضفي عليهما الشاعر نكهته الخاصة :
السكون والجنون ، إن معاني السكون والجنون يفلسفها الشاعر فلسفة تحيل إلى
دلالة معاكسة ، ليكون السكون هو فوضى دائمة رتيبة ، بينما يكون الجنون هو ذلك
الخروج عن مألوف هذه الحياة مما يجعلها مطلبًا لكل ذي لب يعرف معنى الحياة ..حقًا .

ها أنْتَ تسري في وريدِ الحَرْفِ
حيْنَ يُسافِرُ الْفِكْرُ الْمُبَعْثَرُ أوْ
تُعانِقُهُ الظُّنونْ
لِتُلَمْلِمَ الإنْسانَ فيَّ
وتَسْتَعيدَ شِتاتَهُ
مِنْ غِيِّ ساعاتِ الشِّجونْ
فاسْكُنْ بُصَيْلاتِ الْقّصيدةِ
وامْنَحِ السَّطْرَ الْجُنونْ
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس