عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-01-2010, 01:25 PM   #1
إبراهيم مشارة
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2009
المشاركات: 6
Lightbulb أيام في الخليج(3)

في الخليج إذا كنت تعودت على الحياة على الطريقة الغربية في باريس أو لندن أو فرانكفورت أو مراكش أو دمشق فلن تجد ما يروي غلتك هنا صحيح العصر الاستهلاكي باذخ في الخليج والنمط المتعولم ظاهر هنا، الخدمات في الخليج ونظام البنوك وناطحات الزجاج الإسمنتية والزجاجية والسيارات الفخمة والوفرة المعلوماتية لا تفرقها عن بلدان الغرب أو الشرق الأقصى ولكن متعة الحياة كما تتذوقها في باريس مثلا لا تجدها ، أتعب من البحث عن قهوة إكسبرس ناهيك عن الجلوس في مقهى كما في تونس الخضراء مثلا يأتيني النادل بالنرجيلة وأستمع إلى عبد الوهاب من مذياع قديم يغني "يا جارة الوادي" لأمير الشعراء شوقي فأتيه عن نفسي وعن العالم مستمتعا بذلك الجمال الكائن في الصوت والكلمات وأترحم على ذلك العصر الذي لم أعشه عصر النبوغ الحقيقي والموهبة الحقيقية- عصر أخيل- وأقارنه بهذا العصر حين تتكفل الآلات الموسيقية بتغطية العورات الفنية أما الكلمات فأشبه ما تكون برسائل "الأس أم أس" التي يبعث بها المراهقون العاشقون إلى حبيباتهم! أوتأتيني النادلة كما في جنيف بالقهوة والجريدة وأختلس النظرات إلى رواد المقهى في فضول عجيب لسبر خبايا الأنفس وربما مغامرة تختلسها من جيب الزمن وتدخرها لحسابك إذا اختليت بنفسك مرة وعددت ألوان الشقاوة وأصناف المتعة التي أتاحها لك السفر أو ربما ساقتني جلسة حميمة إلى نسيان من حولي، والاستغراق في تفكير عميق في أهلي وأفكاري حول الناس هناك وصديقي السويسري جاك مرة قال لي وأنا أنزل عليه ضيفا في مزرعته البعيدة في أقصى الشمال السويسري :
- حين تسافر وتبتعد بالجسم عن أهلك تكون لك الفرصة لمعاينة مشاعرك وحبك بكل صدق!
وصدق هذا السويسري الفلاح فصلاح عبد الصبور يقول في إحدى قصائده: أباعدكم لأعرفكم
لن تجد هنا شوارع على شاكلة سان ميشيل أو سان جرمان ولا أحياء شعبية كما في فاس أو دمشق أوالقاهرة بل العمارات الباذخة والشوارع الرحبة والسيارات الفارهة ولكن الإمارات العربية تجمع حقا بين الحداثة في الأخذ بالتطور الحاصل في الغرب والأصالة العربية وهذا ظاهر من الهندسة العمرانية ومن محافظة الناس على أشكال من العادات العربية الأصيلة في خلقتها الأولى ببساطتها وخلوها من تعقيدات التمدن
حتى الصحراء العربية التي كنت أشرف عليها من الطائرة بدت بيضاء الأرض بيضاء قاحلة والانبساط المجدب يملأ المكان . هناك صحراء أخرى في المغرب العربي صحراء "الطّوارق" مذهلة باعثة على الحلم والمغامرة والتردد عليها من غير ملل ، تلك الطبيعة التي تشعرك أنك لست على كوكب الأرض بل على المريخ في أشكال الصخور العجيبة وتلال الكثبان الذهبية وللأروبيّين كل الحق حين يهيمون بالصحراء فأنا شخصيا عشت فيها تجارب عدلت من نظرتي إلى الحياة . الصحراء عطاء وعظمة وحكمة وصفاء ، القلب فيك يكاد ينخلع فيعانق الأشياء والروح تسبح بحمد الجمال والرحابة والطهارة غير أن في الصحراء العربية من أخلاق العرب وطرائق معيشتهم وآدابهم ما يبعث على الاستحسان والتقدير ومذكرات الرحالة الأروبّيين خير شاهد على ذلك.
كانت رحلة قصيرة ولعل المرة الأولى التي ألوذ فيها بالفندق مرارا فالحرّ لا قبل لي به وكذلك الرطوبة ثم أني لا أملك هذه السيارات الفارهة المكيفة التي تتيح لي أن أتنقل بين الشوارع حتى الباصات لا وجود لها والميترو الباريسي الذي تسمع فيه موسيقى وصخبا وتشم فيه رائحة النبيذ والعطر الأنثوي الفاخر وتختلس فيه النظر إلى جريدة الفيجارو أو الباريسيان أشياء أروبية خالصة ، وبالرغم من أن هذه المرة كانت برفقتي آنسة فيها شيء من الملاحة والخفر وهمست في أذنها:
لا شيء أجمل من أن تصطحبك امرأة بل الحياة ذاتها من غير المرأة لا تستحق أن تعاش. ولكنني يا صديقتي لا أقوى كثيرا على المشي فالحرارة تذيب مخي والرطوبة تخنقني ، ما رأيك أن نعود في الليل نذرع هذه الشوارع ونتفرج على المحل الكبير " سوق الشيخ زايد" ستجدين أصنافا من الحلاقة والعطور وألوانا من التسلية وصخبا وحركة تنسينا حر النهار وعدنا في الليل.
وصديقتي مشغولة جدا بالتقاط الصور أمام العمارات الباذخة وقبالة المحلات الفخمة وفي الشوارع العريضة وهو شيء لا أميل إليه وقد أتعبتني بطلبها في التقاط صور لها.
وأشرفت الرحلة على النهاية . قال وكيل الهيئة المنظمة للرحلة الثقافية:
السيارة ستكون أمام الفندق الخامسة صباحا لتوصلك إلى المطار والرحلة السادسة صباحا إلى الدوحة وفي الطريق إلى المطار كنت أتفرج على المدينة المتثائبة تدغدغها نسمات الفجر الأولى القصور الرائعة المطلية بالأبيض ذات الطابع الهندسي العربي تزينها أشجار النخيل ومن بعيد يلوح مسجد الشيخ زايد تحفة هندسية عظيمة ، كان يستحق الزيارة ولكن الوقت لا يسمح وحتى مطار أبو ظبي تحفة هندسية أخرى: الراحة والعصرنة والتطور التقني الكبير وألوان من التسلية والتسوق والراحة في بزّة عربية تؤكد لك حقيقة أنك في بلد عربي خليجي.
وأنا جالس في مقهى المطار وما أكثر مقاهيه أتناول قهوة حضرت على الطريقة الأمريكية شربتها على مضض وأدخن سيجارة، وإذا حاربوا التدخين في كل الأمكنة سنضطر – نحن المدخنين- إلى الذهاب إلى القمر لتدخين سيجارة والعودة إلى الأرض!دخن سيجاة فالتدخين هنا مسموح وغذا حاربوه في كل مكان سنظطر على الذهاب على القمر لندخن سيجارة ونعود إلى الأرض! وأتفرج على الأمواج البشرية المندفعة إلى المطار في ساعات الصباح الأولى، كل سيأخذ وجهته مطارات تدفع ومدن تبلع وشدتني المضيفات الأنيقات الجميلات وهن من أروبا والشرق الأقصى وقلت في نفسي لا خوف علينا من السفر« ضع مركوبك مع السعيد تسعد» كما يقول المثل المصري.
أقلعت الطائرة في ميعاها وهذا وجه من وجوه التقدم فاحترام الوقت لبّ الحداثة والتطور والطائرة القطرية تجاهد لتتلمس طريقها في عالي الجو وترتعش ارتعاشة خفيفة حينا وعنيفة حينا آخر ولكنها تسيطر على الأجواء في النهاية فتسلس لها القياد .
أمسك السياب كرة أخرى بخناقي ووجدتني أهمس لنفسي:

« يا خليج
يا واهب المحّار والردى. »
فيرجع الصّدى
كأنه النّشيج :
« يا خليج
يا واهب المحّار والرّدى. »
وينثر الخليج من هباته الكثار،
على الرمال رغوة الأجاج، والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
إبراهيم مشارة غير متصل   الرد مع إقتباس