عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 27-04-2010, 09:09 AM   #55
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الرابع والأربعون: "العوام" و"الأفندي" في مصر: دراسة في آليات الشك المتبادل..

تقديم: علي فهمي.. باحث مصري

الصفحات 745ـ 758

توطئة:

قبل أن ندخل في موضوع البحث، دعنا نتذكر مع الأخوة القراء، أن الوظائف العامة قد جرى عليها تغير منذ صدر الدولة الإسلامية حتى العصر الحديث، وقد كانت الدولة المتأثرة بالنمط الفارسي تتشابه مع الدولة المتأثرة بالنمط العثماني (التركي)، من حيث أن الوظائف بها تختلف عما كانت عليه في العصر الراشدي أو العصر الأموي، حيث كان يتقاضى الموظف راتبه من بيت مال المسلمين.

أما في النمط الفارسي والنمط التركي، فكان الولاة وأتباعهم في الوظائف الدنيا هم من يعطون الدولة بدل تعيينهم في مراكزهم، كذلك كان يفعل القضاة وباقي الموظفين على أن يحصلوا هم من الرعايا ما يفوق ما يدفعونه للدولة.

مقدمة الباحث

وضع الباحث في مطلع بحثه بين هلالين (الفاتحة للعسكري، قلع الطربوش وعمل ولي)، وهي أهزوجة من أهازيج العوام في القاهرة، ذات دلالة ساخرة، وتنم عن حيل الفكاهة المصرية للتندر بمن يلبس التقوى الزائفة ليغطي على ظلمه وفساده.

يتقدم الباحث بمحاولة للتعريف ببعض الألقاب التي سادت في المجتمع المصري:

1ـ باشا: وهو لقب يمنحه السلطان الى ذوي الرتب العسكرية، أو السياسية العليا، وهي لفظة (فارسية) بالأصل مكونة من مقطعين (با) وهي القدم و(شاه) وهو السلطان.
2ـ البك: وهو لقب يلي برتبته رتبة الباشا وكان يمنح لزعماء القبائل، ثم أصبح يمنح للموظفين المتنفذين من وكلاء الوزارات والمدارء العامين، وأصبح يلفظ (بيه).
3ـ الأفندي: (وهو الذي ما نهتم به في هذه الدراسة)، يأتي بعد مرتبة البك، ويشمل طوائف واسعة من المستخدمين العموميين. ثم أصبح يشمل السعاة حتى الذين لم يكونوا يحملون شهادات دراسية.
4ـ (الجلبي) لم تكن تستخدم بمصر، بل بالعراق وهي لفظة لها علاقة بملكية الأرض (إقطاع).
5ـ العوام: تطلق على عموم الشعب وتأخذ أشكالاً لفظية أخرى حسب موقع اللفظ، فيقال (حرافيش) ويقال (زعر) ويقال (عامة) ويقال (جعيدية).

وقبل أن يدخل الباحث في صلب بحثه، ينوه الى أن التغيرات الجوهرية التي طرأت على مفهوم الوظيفة كانت في النصف الثاني من عهد محمد علي باشا، أي في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، إذ أصبح للموظفين العموميين رواتب محددة، ولهم مهام محددة، وإن كانت في تلك الفترة تنحصر الوظائف بما يشبه مهام موظفي البلديات في أيامنا.

أولاً: حول تاريخ الشك المتبادل بين (العوام) و(الأفندي) في إعادة التركيب

يقدم المثال المصري في تاريخ الإدارة البيروقراطية تجسيداً فريداً لطغيان السلطة المركزية والتتابع التدرجي للقهر الإداري، من رأس الدولة الى صغار الموظفين مروراً بكبار وبمتوسطي الموظفين. ولعل هذه الملامح والسمات التي تكتسبها ـ تقليدياً ـ الإدارة البيروقراطية المصرية ترجع الى ضرورات ضبط (النهر) على نحو صارم*1. وهكذا، فإن أهم الوظائف المصرية تكون قد حُصرت في الري وجباية الضرائب والدفاع.

وعليه فإن تلك المهام تستوجب صرامة آمرة من طرف الدولة، وجمهور (عوام) يشكك ويتذمر من دور الدولة، ويخضع لها في نفس الوقت.

ولنعد الى دور محمد علي، في ترتيب الدواوين (المصالح الحكومية) ونسقها الذي استقاه من الشكل الأوروبي، فيما يتعلق بتحديد شروط التعيين والترقي وإنهاء الخدمة، وصرف الرواتب، وإعفاء العوام من تقديم الأموال (رشاوى، أتاوى) الى الموظفين العموميين.

ومن المهم، الإشارة تاريخياً، الى دور الأقباط في إشغال الوظائف الحسابية والكتابية، والتي التصق بها لقب (الأفندي)، وهذا النهج استنه العرب الفاتحون، فبقي الموظف الصغير القبطي، يتعامل مع العوام كممثل صغير للدولة وبنفس الوقت، ينتهج نهجاً يشعر العوام أنه أقرب إليهم من الدولة! وقد يكون السبب وراء ذلك، أن غالبية المصريين قد دخلوا سلمياً في الإسلام، بحيث ترك هذا الجو المسيحيين الأقباط بأنهم باتوا أقلية، فكانوا لا يريدون الاصطدام المباشر مع المسلمين وبنفس الوقت يبحثون عن رضا أجهزة الدولة.

لقد كانت نظرة العوام الى الأفندي تتسم بالشك فهذا (الأفندي) هو من يغش (سك العملة) بتقليل نسب الذهب والفضة وهو الذي يسهم في إخفاء البضائع في الأزمات وهو الذي يسوق الناس في الفيضانات للسخرة والعمل المجاني في درء مخاطر الفيضان، وهو الذي يمهد لتجنيد العوام عند الحروب.

وبالمقابل، فإن الأفندي كان ينظر للعوام بأنهم كاذبون يحسنون التمثيل بفقرهم وعوزهم ونفاقهم وتقليل أرباحهم للتهرب من الضرائب.

ثانياً: العوام والأفندي في مصر المعاصرة ـ تنويعات حديثة على لحن قديم

إن كان عرضنا للعلاقة بين العوام والأفندي في عهد محمد علي باشا يرسخ تلك الصور، فإن التغيير الذي حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبالذات في النصف الثاني من عهد (الخديوي إسماعيل) أي عندما بدأت المعالم الدستورية تظهر في الدولة، ويظهر معها القوانين الحديثة على النمط الأوروبي.

ولو أردنا مناقشة الأسباب العميقة لبقاء ظلال التوتر والشك المتبادل في العلاقة بين العوام والأفندي، فإننا نفترض عدة فرضيات وراء (الإستاتيكية: عدم التجانس بين طبقات المجتمع). فعلى الرغم من التوسع الهائل في التعليم، وبخاصة بعد تعميم المجانية الكاملة في التعليم ما قبل الجامعي بمبادرة من (طه حسين) وزير التعليم في حكومة الوفد الأخيرة (1950)، ثم تعميم مجانية التعليم الكاملة في عهد عبد الناصر، فإنه يوجد 18 مليون أمي في مصر (كتب هذا البحث في أواسط التسعينات من القرن الماضي). وهؤلاء الأميون كلهم من عوام الريف والحضر.

كما أننا نفترض وبالتوازي مع الفرضية السابقة، أن تدني المستوى المادي للموظف العام في مصر وبخاصة منذ تبني الدولة لسياسة الانفتاح (1974)*2، وما ترتب على ذلك من آثار بالغة الخطورة، تمثلت في ارتفاع التضخم بمعدلات غير مسبوقة، أصبح هذا (الأفندي) مهدداً بأن يهاجر من طبقته الوسطى الى أدنى طبقات الشعب، وهذا ما دفعه لإهمال واجبه الوظيفي ويسيل لعابه على رشوة يبتكر لها وسائلها. هذا مما زاد التوتر بين العوام والأفندي. وقد كانت الرشوة والتي لم يكن من يعرفها في عهد عبد الناصر، معروفة ومعترف بها على لسان رئيس الوزراء (عبد العزيز حجازي 1975) عندما طالب بتقنين الرشوة والتي سماها في تصريحه (عمولة).

الى جانب الفرضين السابقين، فإن هناك فرضية ثالثة، وهي كثرة القوانين والتعليمات والتي تشرع للعلاقة بين الشعب والسلطة، فقد صدر منذ ثورة 1952 ولغاية عام 1986، (59) ألف تشريع وقانون، وهذا يؤدي الى بلبلة بين الشعب ويجعل من الصعب على القضاة والمحامين الإلمام بهذا الكم.

ثالثاً: آليات الشك المتبادل بين (العوام) و (الأفندي) ـ خطوط عريضة

عند حدوث الزلزال في مصر في ظهر يوم 12/10/1992، تحركت كافة الأجهزة المعنية بعد فترة وجيزة من حدوث الهزة الأرضية، الى درجة أن (مجلس الوزراء المصري) الذي كان منعقداً أثناء الحادث، ظل في حالة انعقاد مستمر لمتابعة الموقف أولاً بأول. وشكلت لجان كثيرة متنوعة الاختصاصات على نحو فوري، كما قطع رئيس الدولة رحلته الى اليابان وعاد للقاهرة فورا.

على الرغم من هذا كله، فإن غيوماً من الشك المتبادل في العلاقة بين جماهير المتضررين (العوام) من جهة، والسلطة على كافة مستوياتها التنفيذية، بما في ذلك صغار الموظفين (الأفندية) من جهة أخرى، قد ظهرت في أفق العلاقة بعد ثلاثة أو أربعة أيام من حدوث الزلزال. وهذه بعض عينات من النظرات المتبادلة:

ـ وعدت السلطات أن من هُدم منزله سيحصل على مسكنٍ فوراً. تم تأجيل تلك الفورية الى شهرين آخرين ثم الى آجال أخرى. وكان العوام يبتكرون النكات التي تدلل على عدم وفاء الحكومة.

ـ في المقابل اتهمت السلطات المواطنين بالكذب وعدم تضرر منازلهم.

ـ في زيارة تفقدية قام بها رئيس الوزراء بعد أسبوع من الزلزال، كَذَّب الأطفال الذين كانوا في المستشفى الذي زاره، كذبوا مزاعم مدراء المستشفى من تقديم الحليب ووجبات إفطار لهؤلاء الأطفال، وكان التكذيب يبث مباشرة على شاشات التلفزيون.

هذه المظاهر تكررت في مصر بعد غرق السفينة وفي أحداث أخرى.

__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس