عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-09-2010, 12:31 PM   #2
عصام الدين
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2000
المشاركات: 830
إفتراضي




إذا نحن فرغنا من تأكيد استحالة إقرار مادة تغير مقتضى نص قرآني قطعي الدلالة في مجتمع مسلم من أجل إحلال نظام جديد للإرث، فإنه يتعين الشروع في الحديث عن مضمون المطالبة، ولن يكون الحديث في هذه المرة مناقشة ومساءلات كما سبق، وإنما سيكون تعريفا وتلقينا لكثير من أحكام الإرث التي تظل منحصرة في مجال التخصص فيكَوِّن عنها الغرباء عن الثقافة الإسلامية تصورات شائهة ومغلوطة، كما سيتناول الحديث إبراز جهل المطالبين بالمساواة بذهنية المجتمع الذي يفترض فيه أن يستوعب نصوص القانون، ويقبل بها ويتعامل معها بكل تلقائية وترحيب. مع الإشارة إلى أن قضية تصريف المال العائلي تكتنفها عوامل ليست كلها اقتصادية، وإنما يتدخل فيها أيضا عنصر الرغبة في استمرار الملك العائلي، وهو ما يفسر حدوث خصومات يومية على امتلاك مساحات صغيرة من الأرض، قد لا تساوي قيمتها المادية جزءا يسيرا من مقدار الخسارة التي يتعرض لها صاحبها وهو يدافع عنها في استماتة وفي ربط وثيق بين الأرض والعرض.

إن الملاحظ أن المطالبة بتسوية المرأة بالرجل في الإرث بهذا الإطلاق هي في حد ذاتها تعلن عن جهل كبير بمقتضيات الإرث في الإسلام، لأن المطالبة توحي بصيغتها بأن المرأة في كل الأوضاع ترث نصف ما يرثه الرجل، وكأن هذا هو الحكم المبدئي والنهائي في القضية، وهو ما ييسر الاسترسال في الوهم إلى درجة ادعاء انحياز الإسلام للرجل في قضية التوريث.


والواقع العملي يفيد أن الحالات التي يفضل فيها الرجل المرأة في الإرث لا تتجاوز في مجموعها 16,33
% من أحوال الإرث، وفي باقي الحالات قد تتساوى المرأة مع الرجل، وقد تفضله، وقد ترث هي ويحرم الرجل.


ففي حالة إرث الأب والأم إذا كان للميت ولد ذكر فإن كلا منهما يرث السدس. ويرث الإخوة للأم بالتساوي ذكورهم كإناثهم، ويرث الإخوة الأشقاء بالتساوي بين ذكورهم وإناثهم في حالة واحدة هي المعروفة بالمشتركة، وتشتمل على زوج وأم أو جدة ومتعدد من الإخوة للأم وشقيق فأكثر، وفيها ينزل الشقيق منزلة الأخ للأم فيشارك الإخوة للأم في الثلث، ويرث معهم بالتساوي بين الذكور والإناث.


وفي حالات أخرى ترث المرأة ويحرم أخوها لو وجد مكانها، كما لو تركت امرأة زوجا وأختا شقيقة وأختا لأب فللزوج نصف التركة. وللأخت نصفها الآخر، لكن الأخت للأب لا يمكن أن تحرم، لأن نصيبها محدد بالسدس فيعاد ترتيب التركة وتقسم على سبعة أجزاء، للزوج 3 وللأخت الشقيقة 3 وللأخت للأب 1، ولو كان مكان الأخت لأب أخ لأب فإنه لا يرث شيئا، لأن نصيبه غير مقدر، وهو يرث بالتعصيب إن بقيت بقية فقط.


ولو وجدت في التركة بنت يقابلها 100 من الإخوة لقسمت التركة على 200 ولكان للبنت 100 جزء، ولكان لكل واحد من الإخوة جزء واحد.


وكل هذا يفيد أن الإسلام ليس له موقف مبدئي يمكن تلخيصه في إرث المرأة نصف ما يرث الرجل كما يتوهم ذلك من لا علم له بأحكام الإرث.


وفي جميع الحالات التي يرث وارث أكثر من غيره فإن ذلك لا يجوز أن يؤخذ على أنه تكريم لمن زاد حظه أو إهانة لمن ورث أقل، لأن رؤية الشريعة لتقسيم الإرث تتجه إلى تحقيق مقاصد عليا وحكم سامية، من أبرزها توجه الشريعة إلى توسيع قاعدة المستفيدين مع ما يستتبع ذلك من تفتيت الثروة وعدم تركيزها في أيد قليلة، ومن المستفيدين نساء كثيرات لا حظ لهن من الإرث في كثير من نظم الإرث العالمية، ومنها نظم أوروبية تقصر الإرث على الزوجة والأبناء، وتمنع وارثات كثيرات لا يرثن إلا في النظام الإسلامي الذي يبلغ عدد المستفيدين من الإرث فيه 30 شخصا بين نساء ورجال على المعتمد، هذا مع قدرة الموروث من حرمان المرأة والرجل معا من الإرث عن طريق الوصية ولو لحيوان.


وقد عودنا الإسلام على أن لا يكون توزيع العطاء مرتبطا بكرامة الأشخاص أو بمكانتهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الفرس من الغنيمة سهمين، ويعطي الفارس سهما واحدا، ولم يأخذ الناس ذلك على أن فيه معنى الانحياز للحيوان على حساب الإنسان، وإنما فهم منه أن فيه تشجيعا على تربية الخيل وعلى العناية بها، وإعانة على مواجهة تكاليفها في التغذية والصيانة.


وأنا أتوقع أن يتكرر القول بأن واقع المرأة أصبح الآن مختلفا عما كان من قبل، لأن المرأة أصبحت عاملة ومنتجة ومشاركة في اقتصاد الأسرة، وهو الأمر الذي يرد بأن المرأة عبر تاريخ أمتنا لم تكن كسلة عاطلة أو منسحبة من تنمية موارد الأسرة، فكانت تشتغل في بيتها وكانت تحتكر كثيرا من الصناعات المحلية اليدوية، وتشتغل خارج البيوت في الحقول والغابات وغيرها، وتمتلك عن طريق ما ينوبها من التجارة أو الكراء أو الإرث، أو ما يوهب لها من المال.


على أني أرى أن رفع شعار مساهمة المرأة في الإنفاق على الأسرة لفرض المساواة في الإرث يظل قولا لا تسنده شواهد من الواقع القانوني ما دام هذا التوجه غير مقنن في نصوص المدونة نفسها، إذ لا يزال الزوج فيها هو المطالب بكل الأعباء المالية ابتداء من دفع الصداق ومرورا بالإنفاق والإسكان والعلاج، وانتهاء إلى دفع مستحقات الطلاق والحضانة، وبسبب هذا الوضع لم نجد في المحاكم دعوات يرفعها الأزواج ضد الزوجات بسبب عدم الإنفاق على الأسرة، ولم نجد في قرارات السجون نساء يعاقبن على عدم الإنفاق، وهذا يبين أن البون بين النظري والواقع بون شاسع.


وبعد الحديث عن حقيقة الأوضاع الإرثية للمرأة وأنها لا يمكن أن تختزل في المفاضلة بينها وبين الرجل في بعض حالات الإرث فإنه يتعين الشروع في بحث مضمون المطالبة بالمساواة وفي الجدوى والفائدة التي يمكن أن تتحقق للمرأة حين تتساوى مع الرجل في كل أحوالها.

وبحث هذه القضية يقتضي تركيز النظر على كل الاعتبارات والمؤثرات الثقافية والاجتماعية التي تصوغ تصور الأفراد وعلاقتهم بالمال، وكيفية تصريفه وانتقاله إلى الغير بعد وفاة صاحبه.

وفي هذا الإطار يجب استحضار أمر أساسي هو رغبة مالك المال في أن ينتقل إلى أبنائه ومن يحمل اسمه، ويكون امتدادا له، لأن هذا المال إما أن يكون حصيلة جهد وكد، وإما أن يكون شيئا من تراث العائلة وما توارثته، ويشهد لهذا النزوع أن نبي الله زكرياء عليه السلام قد أعلن عن تخوفه من أن يصير المال بددا بعده أو يقع بأيدي الأجانب فقال في شكواه إلى ربه: "إني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب" فهو قد رجا أن يستمر ماله في ولده، وأن تكون الوراثة والاستمرار في ولد يعقوب.


وإذا كانت هذه العاطفة طبيعية وعادية فإنها قد تطغى وتستبد بصاحبها فيرى أن إرث ابنته لا يحقق هذه الغاية لأن ما ترثه ابنته قد يؤول إلى الأغراب فيرث منه زوجها وأبناؤها، فمن ثم يعمد البعض إلى حرمانها باستعمال وسائل الاحتيال الكثيرة.


والمرأة المغربية إلى الآن تشكو من هذا الوضع ومن حرمانها من الحق الذي أولاها الإسلام إياه، فهي لا تستفيد من أراضي الجموع، لأن القيمين عليها يرون أن استفادتها هي مدخل لتسلل الأجانب إلى ملك القبيلة، ولا زالت المرأة تعاني الحرمان من الإرث على مستوى بعض القبائل فتأسس لذلك عرف جائر يمنع المرأة من مجرد المطالبة بالإرث في عقار القبيلة تحت طائلة التعرض لعقوبة النبذ والإقصاء.


وفي حالات كثيرة تبرم عقود الهبة والبيع الصوري للأبناء من أجل حرمان البنات.

ويتأكد هذا الحرمان بكيفية مطلقة، وعلى كل المستويات حينما يتعلق الأمر بإرث ممتلكات قد تعتبر تراثا تاريخيا للأسرة كالمكتبات العائلية والبنايات الأثرية والمقتنيات النادرة.

ومن أجل التخفيف من الرغبة الصارمة في استبقاء المال داخل نطاق الأسرة الواحدة أو العائلة الواحدة أو القبيلة الواحدة، فقد ورث الإسلام المرأة نصف ما يرث الرجل في بعض أحوال الإرث، لتسخو النفوس بذلك ولئلا يعمد المجتمع إلى حرمانها من حظها المقرر لها.


فإذا كان هذا هو واقع تعامل المجتمع مع إرث المرأة أفيكون من الحكمة المطالبة باحترام الشريعة في إرث المرأة؟ أم أن الحكمة تتمثل في المطالبة بالمساواة التي قد تذهب بعيدا بأفراد المجتمع في اللجوء إلى كل الحيل والتصرفات القانونية التي يحرمون بها المرأة من الإرث حتى لا ينتقل إلى الأجانب، والناس لا يعدمون حيلة حينما تواجههم أوضاع لا يرتضونها كما عبر عنه قول المتنبي:


------------ - كلما أنبت الزمان قناة ------ ركّب المرء في القناة سنانا




آخر تعديل بواسطة عصام الدين ، 02-09-2010 الساعة 01:10 PM.
عصام الدين غير متصل   الرد مع إقتباس