عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 06-06-2008, 02:59 PM   #10
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

6ـ آلية الرغبة


يطرح الكاتب في مستهل حديثه، عدة أسئلة رشيقة لكنها تدفع بالنهاية القارئ الى اعتماد نظريته كما يريد. هل التاريخ غائي؟ هل تتطور كل المجتمعات أو معظمها في اتجاه واحد معين، أم أن تاريخها ينهج نهجا دوريا أو عفويا محضا؟

يستدرك الكاتب بسرعة، إن كان النهج عفويا، فبالإمكان أن تكرر البشرية أي ممارسة اجتماعية أو سياسية من ممارسات الماضي: قد يعود نظام الرق، وقد يتوج الأمراء والأباطرة في أوروبا، وقد تفقد النساء حق الانتخاب. أما التاريخ الغائي فعلى العكس من ذلك، إذ أنه يعني أنه ليس بوسع أي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي يتجاوزه مجتمع ما، أن يتكرر في نفس المجتمع.

هل التاريخ يعيد نفسه؟

التاريخ لا يعيد نفسه أبدا، فلا بد أن هناك آلية دائمة وواحدة، أو مجموعة من الأسباب الأولى التاريخية التي تفرض التطور في اتجاه واحد، والتي تحفظ ذكريات العصور السابقة حتى الزمن الحاضر.

مفتاح الغائية الوحيد للتاريخ

المعرفة هي المفتاح للغائية، لكن ليس كل المعارف، فالمعرفة العلمية هي الوحيدة التي ينطبق عليها الكلام، أما الفن والرسم والشعر والأدب والموسيقى والمعمار، فلا ينطبق عليها مفهوم الغائية والتطور الغائي، فلا يمكن أن نقول أن موسيقيين اليوم هم أفضل من موسيقيي القرن التاسع عشر، ولا يمكن أن نقول أن معماريي اليوم هم أفضل منهم في عهد الفراعنة أو اليونانيين، ولا يمكن أن نقول أن الطالب الذي تخرج على يد نيوتن هو أفضل منه. فالمعرفة العلمية لا هي بالدورية ولا بالعفوية بل هي تراكمية تسند طبقاتها السابقة ما يليها من طبقات.

الحروب تحتم الاستعانة بالتراكم المعرفي

الطابع العالمي للعلم (يقصد الكاتب هنا عمومية العلم) يوفر الأساس لتوحيد البشرية لما يحمله من تغيرات تاريخية غائية.. كيف؟ فالحروب تنقل المعرفة أو تستفز الغير في امتلاك المعرفة.. كيف مرة أخرى؟ يضرب الكاتب مثلا: أن قبائل (الزولو) لم تكن لتتغلب على بنادق الإنجليز (في جنوب إفريقيا) مهما امتلكت تلك القبائل من الشجاعة ورباطة الجأش.

ويتدرج الكاتب بأمثلة تاريخية، من اليابان والصين والدولة العثمانية وغيرها، فعندما تستشعر الدولة التي تتعرض لهزيمة قوة خصمها وتفوقه التكنولوجي، تقوم بدراسة هذا الخصم واستلهام عناصر قوته، فتجري إصلاحات إدارية في سياستها الداخلية، وتبعث أبنائها لدراسة العلوم التي زودت عدوها بالقوة (هكذا فعل محمد علي باشا إثر غزو نابليون لمصر).

وعندما تتكرر الهزائم، فإن الإصلاحات تطال شكل الحكم (تغير الحكم في بروسيا و فرنسا من ملكي لجمهوري وتشريع القوانين التي تنظم تفعيل أدوات المجتمع ليصبح قادرا على صد الاعتداءات).

العلوم الطبيعية تنظم الحياة الاقتصادية والاجتماعية

التصنيع، ليس مجرد تطبيق مكثف للتكنولوجيا في عملية الصناعة وابتداع آلات جديدة، وإنما هو أيضا استخدام العقل البشري في حل مشكلة التنظيم الاجتماعي وابتداع تقسيم (منطقي) للعمل. هذه الاستخدامات المتوازية للعقل، لابتداع آلات جديدة وتنظيم العملية الإنتاجية، قد نجحت الى حد أبعد مما كان يحلم به الدعاة الأوائل، فقد زاد دخل الفرد في أوروبا الغربية الآن أكثر من عشرة أضعافه في منتصف القرن الثامن عشر، حين كان الدخل في كثير من دول العالم الثالث أكثر منه في أوروبا!
[إن الفقرة السابقة تدين ما يعتقد به الكاتب من مركزية الغرب وفضله على العالم، فقد تزامنت تلك الفترة مع الحركة الاستعمارية التي امتصت خيرات الشعوب فتدنى دخل المواطن في العالم الثالث، لينتقل الى جيوب أفراد الغرب. أما حجة التفوق العلمي، فقد رأينا كيف تكالبت سبعة جيوش لقهر جيش ابراهيم ابن محمد علي وتخفيض جيشه من 540ألف الى 12 ألف جندي فقط، وهي نفس التجربة التي كرروها في العدوان الثلاثي على مصر، وفي غزوهم للعراق، لإبقاء الفجوة واضحة بينهم وبين غيرهم من أبناء العالم الثالث، فهل يصلح هذا النموذج أن يكون قاعدة عمل منهجية عامة؟]

التنظيم الرشيد يستوجب إدخال تغييرات متناسقة

يقول الكاتب في هذا المجال: أن الطبقة العاملة التي كان يُنظر إليها كمنفذ لبرامج الطبقة الرأسمالية (الليبرالية العليا) وتأتي من الأرياف لخدمة برامج أصحاب المال لم يعد بالإمكان إبقاء مكان سكناها في الريف، فانتقلت الى المدينة لتكتشف أهمية نفسها في تطبيق برامج الرأسمالية، فنظمت نفسها وأخذت تتدخل في تطوير التشريعات التي تضمن حقوقها، حتى أصبح الخطاب الرأسمالي لا يمكنه تجاوز تلك الحقوق، بل أدخل مكونات المجتمع في تشريع نظامه.

وهنا يضرب الكاتب مثلا للمقارنة، فيقول: إن أربعة أخماس الأمريكيين كانوا يعملون لحسابهم الشخصي (كأفراد) في القرن التاسع عشر، في حين لم يبق اليوم إلا عشر سكان الولايات المتحدة يعملون لحسابهم الشخصي. حيث انخرط معظم السكان في حجم التنظيم (البيروقراطي ـ أهلي و حكومي) بحيث لا يمكن تجاهل هذا الوضع.

الجانب الأخلاقي في غائية التاريخ

تبنت الماركسية، إزالة الفوارق الطبقية بين أفراد الشعب، فلا فرق بين المدينة والريف، ولا فرق بين الطبيب الأخصائي أو العالم النووي مع جامع القمامة، فكانت التنظيمات النقابية تشمل كل الأصناف (نقابة موسكو بها الطيار والعالم والزبال). لكن ذلك ثبت فشله، ففي حين استطاع الغرب الليبرالي تقليل الفوارق بين المدينة والقرية من خلال نظام أكثر عدالة، انهارت مبادئ الشيوعية بسرعة كبيرة لعدم قدرتها على ترجمة الجانب الأخلاقي بشكل إجرائي.

إنما علينا أن نعترف، أن الشركات لا توظف الباحثين لتحقيق سعادة الناس، بقدر ما تخدم تلك الأبحاث مالكي الشركات لتحقيق الأرباح الأكثر. وعلينا الاعتراف أن ظواهر تقسيم العمل والنمو البيروقراطي ما هي إلا ظواهر مبهمة من حيث دلالاتها الخاصة بسعادة الإنسان.

وهذه ليست مهمتنا، فنحن نريد إثبات أن التاريخ يتقدم نتيجة أسباب ممكن أن نلمسها وأن تطور العلوم الطبيعية الحديثة يؤدي الى أن يصبح التاريخ غائيا. لكن بالمقابل هل يمكن لتلك العلوم أن تتوقف ويعكس التاريخ مساره للوراء؟
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس