عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 10-04-2010, 10:10 PM   #14
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الخامس: المجتمع المدني والدولة

المجتمع المدني والجماعة الأخلاقية

أدركت المفاهيم الكلاسيكية عن المجتمع المدني أن الحياة الاجتماعية تدور في ميادين منفصلة، ولكن المنظرين لم ينظموا فكرهم حول المصالح الفردية. فالإغريق والرومان، في أغلب الأحوال، وضعوا الصراعات الخاصة في إطار مفاهيم واسعة عن المواطنة.

لم تكن ظاهرة عدم الاتفاق على أساسيات مفهوم المواطنة والمجتمع المدني متعلقة بالفترات التاريخية. بل كانت أيضاً متفاوتة في الأقطار الأوروبية نفسها وفي وقت وتاريخ بعينه، ففرنسا وبريطانيا اللتان كانتا تصدر مفاهيم نظرية عن المواطنة والمجتمع المدني، لم يتفق معها فلاسفة ألمانيا التي لم تتطور الأسواق والصناعة فيها بنفس الدرجة التي كانت في بريطانيا وفرنسا، فكانت الاختلافات في وجهات النظر عند (كانط وهيغل وماركس) تختلف عنها عند آدم سميث وغيره.

(1)

كان (ديفيد هيوم 1711ـ 1776) المؤرخ والفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي، قد خالف من سبقه بإثارته وجوب التمييز بين العقل والمبدأ الأخلاقي، بقوله عن لزوم التمييز بين (ما هو كائن Is) و (ما يجب أن يكون Ought) إذ ثمة حد قاطع يفصل المفاهيم الخلقية المتجذرة في (مشاعر النوع الإنساني وعواطفه) عن الحقائق التي يكشفها العقل.

فكيف يمكن صوغ مفهوم عن الصالح العام تصورياً في بيئة كهذه؟ عن هذا أجاب (هيوم) بأنه لا يمكن الكشف عن الصالح العام من خلال التفكير الخُلقي، كما أنه لا يوجد بمعزل عن مجموع المصالح الفردية. فالقواعد التي يسير وفقها المجتمع المدني غير مستمدة من القانون الخلقي الطبيعي؛ فهي (مصطنعة)، والمجتمع المدني ليس غير تنظيم اتفاقي لغرض السعي وراء الأهداف الخاصة.

لأن العقل الذرائعي يساعد الأفراد على تشخيص مصالحهم، ويدلهم على السبيل الأفضل لتطمينها. لقد حلت الخبرة والعادة محل المبدأ الأخلاقي والفضيلة بوصفهما معيارين للحقيقة. ولا يُتوقع من الناس إتباع القواعد الأخلاقية إلا إذا تم تلبية حاجاتهم المباشرة.

(2)

كان (إيمانويل كانط) أعظم فلاسفة عصر التنوير، وبدأ رده على (هيوم) بالقناعة القديمة القائلة إنه ليس بوسع المصلحة الذاتية أن تقدم أساساً مقبولاً للحياة الإنسانية. أراد كانط تأسيس المجتمع المدني على إحساس باطني بالواجب الخلقي يوحد البشر معاً.

أعلن كانط أن البشر أحرار خلقياً لأنهم يستطيعون معرفة الحق، من دون أن يطلعهم أحدٌ عليه، وأنهم يستطيعون أن يستخلصوا القواعد الخلقية الصحيحة باعتبارها متطلبات يفرضونها على أنفسهم. كان الاسكتلنديون قد قالوا أشياء كثيرة مماثلة، ولكنهم فشلوا في تمييز الحد الذي يمكن أن تتصادم عنده الواجبات الخلقية مع الأهواء، والتحيزات، والشهوات، والرغبات الجامحة. فقد جعلوا الأمور غاية في اليسر والسهولة، ولكن كانط أدرك أن المعنى الأخلاقي لا يُنال بسهولة؛ إنها حالٌ نقاوم فيها بعنف ضبط سلوكنا.

بشر (كانط) بعصر التنوير وعرف التنوير بأنه (هو خروج الإنسان من قصوره المولد ذاتياً) أما تعريف القصور عند كانط فهو (عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه من دون توجيه شخص آخر. فهذا القصور مُوَلَد ذاتياً إذا لم تكن علته الافتقار الى الفهم، إنما الافتقار الى العزم والشجاعة في استخدام قدرة الفهم من دون توجيه خارجي. وإن شعار عصر التنوير هو (( كن شجاعاً واستخدم عقلك)).

(3)

عند تطرقه للحرية، يؤكد (كانط) بأن الحرية (هي إمكانية الاستقلال عن الضرورة التي تحكم العالم المحسوس. وإذا كانت الإرادة تتحدد بقانونها الخاص، فإنها تظل محدودة، لأننا لسنا مثل الله كي نعرف دائماً ما هو الحق بوضوح تام. أدرك كانط أن لنا رغباتنا وأهدافنا التي تفرض علينا مراعاتها. إذ لا يمكن تجاهل المصلحة الخاصة ولا محوها، فشرطنا الإنساني موسوم بتوتر دائم بين ما نريد فعله وما يجب فعله.

إن الإرشاد الى الفعل الخُلقي يناسب الكائنات الناقصة عقلياً، ذلك أن (الفريضة المنطقية) تقدم معيار الحكم الوحيد الذي سيختاره الكائن التام عقلياً، وهو: (اجعل من القاعدة التي تسير على هديها إرادتك مبدأ يوفر القانون الكلي في الوقت نفسه).

كان المجتمع المدني، من وجهة نظر كانط، يمثل مجموعة من الممكنات الملائمة لأناسٍ متحضرين، وقد لاحظ العديد من دارسي كانط أن فكرة (الفريضة المنطقية) هي في الواقع مجموعة من الإجراءات. وقال إنه من السذاجة أن نستطيع الاعتماد على خيرية الآخرين. صحيح أن الفعل الخيِّر مهم، لكن لا يمكن أن يكون منبعاً للعدالة، أو مبدأ يُنظم المجتمع المدني.

إن الاستخدام الحُر للعقل النقدي لا يضمن الاتفاق، إلا أنه يوفر ببساطة مجموعة من قواعد السجال. لأن السجال يمكنه تلطيف المصلحة الفردية المناهضة للمجتمع. هذا السجال سيكون سبباً في قيام نظام اجتماعي يحكمه القانون. وهذا التناحر أو السجال هو ما يسميه كانط (الاستعداد الاجتماعي للااجتماع) لدى الإنسان: أي التناقض بين النزوع الإنساني الى تشكيل المجتمعات المدنية ومقاومة ذلك النزوع في الوقت نفسه.

(4)

إن المشكلة الكبرى للجنس البشري، الذي تجبره الطبيعة على البحث عن حلٍ لها، هي مشكلة إيجاد مجتمع مدني قادر على تطبيق العدالة بشكل كلي. وهذا لن يتحقق إلا في مجتمع يتمتع بأعظم حرية ويتناحر فيما بين أفراده ومؤسساته.

ودولة القانون (Rechtsstaat) هي وحدها التي تستطيع أن توفق بين استقلالية الفرد الأخلاقية ومتطلبات النظام العام؛ حيث يقتضي العقل أن تتحكم المعايير بالعلاقات الإنسانية وتحل النزاعات العامة الكلية ل (الفريضة المنطقية). ويتشكل المجتمع المدني من خلال (علاقة تقوم بين أناسٍ أحرار يخضعون للقانون القسري، بينما يحتفظون بحريتهم ضمن وحدة عامة مع أقرانهم).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس