عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 03-10-2009, 12:14 AM   #45
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


الفصل الأخير

31ـ الحروب الكبرى للروح

يوحي تدهور الحياة الجماعية بأننا قد نواجه في المستقبل خطر التحول لنصبح (خاتم البشر) الآمنين المستغرقين في ذواتنا، الخالين من الجهاد من أجل أهداف أسمى، إذ نسعى وراء وسائل الراحة الخاصة. بيد أن الخطر المقابل قائمٌ هو أيضاً، وهو أن نعود الى وضع الإنسان الأول الذي يخوض معارك دموية لا طائل وراءها من أجل المنزلة، ولكن بأسلحة حديثة هذه المرة.

يحاول (فوكوياما) التصالح مع الجزء الرافض من ذاته لما يحاول أن يجعله منظومة من القوانين التي لا يمكن تجاوزها في الحياة البشرية، فيتساءل: هل أن كافة الناس سيؤمنون بأن صنوف الصراعات والتضحيات الممكنة في ديمقراطية ليبرالية غنية وراضية عن ذاتها، كافية لإبراز أسمى ما في الإنسان؟ أفليس ثمة مستودعات من المثالية غير قابلة للنفاد؟

ويضرب مجموعة من الأمثلة، تصب كلها في دعم توجسه، فيقول من يهتم ويتابع أولئك الذين يحاولون تسلق الجبال، ويعتبرهم مثله الأعلى؟ ومن يهتم بالسياسة كاهتمام جورج بوش؟ هناك من يهتم، لكنهم ليس كل الناس، وليس هؤلاء الذين يريدون التميز ونيل اعتراف الآخرين بأهميتهم، يقومون بأعمال أكثر عدلا ونفعا من غيرهم، وبالتالي فإن ما سيصلون إليه في النهاية لن يكون هو السمة العامة للحياة.

(1)

إن الفضائل والمطامح التي تبعثها الحروب، أي حروب، لن تكون فضائل نهائية. فحرب محامي شركة عملاقة يقاتل من أجل استيلاء شركته على شركة أخرى، يحسب نفسه وحشاً كاسراً ومقاتلاً شرسا، وحالة المتاجرين بالسندات يحسبون أنفسهم كما في رواية (توم وولف) التي تحمل اسم (إحراق داء الغرور The Bonfire of the Vanities ) سادة الكون.

ولكن هؤلاء ما أن يسترخوا على مقاعدهم الجلدية الفاخرة في سياراتهم الثمينة، حتى يدركوا في قرارة أنفسهم أنه كان في الماضي مقاتلون وسادة حقيقيون في العالم لا شك أنهم كانوا سيحتقرون الفضائل التافهة اللازمة لنيل الثراء أو الشهرة في المجتمع الأمريكي الحديث.

(2)

يعود فوكوياما لمناقشة نظرة (هيجل) الى حاجة الإنسان بالافتخار بإنسانيته، فيقول هيجل: لن تُشبَع تلك الحاجة بالضرورة بواسطة (الأمن والرخاء) اللذان ـ وباعتقاد فوكوياما ـ سيعمان مع نهاية التاريخ. فبرأي هيجل أن البشر سيواجهون دائما خطر الانحدار من حالة المواطنة الى محض البرجوازية، فيحتقرون أنفسهم من أجل ذلك. والواقع أن المحك النهائي للمواطنة كان ـ وسيظل ـ كامناً في مدى استعداد المرء لأن يموت من أجل وطنه، فيكون على الدولة أن تفرض الخدمة العسكرية وأن تستمر في خوض الحروب.

وقد اتهم كثيرون (هيجل) بتشجيعه للحروب، ولكنه في الواقع لم يمجد الحرب في ذاتها، لكنه قال بأن المجتمع بلا حرب سيقع فريسة شهواته وتنحل الجماعات ويقل الولاء للمجتمع والوطن والمبادئ ويصبح الإنسان لين العريكة.

(3)

حاول فوكوياما أن يستحضر بعض الأمثلة التي تسود في المجتمعات الليبرالية والديمقراطية والتي يعمها الهدوء والرخاء، كيف أن تلك المجتمعات تشعر بالملل. وقد ضرب مثل التمرد الذي حصل في فرنسا عام 1968، عندما أسقط الطلبة الجنرال (ديغول)، وعندما يحاول المحلل الاجتماعي أو السياسي تفسير ما حدث لا يجد فيه أي جانب عقلاني بل هي ثورة ضد الملل!

بل ذهب فوكوياما أبعد من ذلك، عندما فسر اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، جاء بعد مرور قرن كامل من الهدوء والرخاء في عموم أوروبا، لقد كره الأوروبيون هذا الهدوء وغذوا أجوائهم بالرغبة في كسر هذا الهدوء فاندلعت الحرب العالمية الأولى لأسباب تافهة.

(4)

يدخل (فوكوياما) بموضوع (حرب الروح)، ويناقش الأسس النظرية التي اعتمدها (نيتشه) أو (الماركسيين) وقارنها بما يفكر فيه (الليبراليون الديمقراطيون)، وينتهي بأن الإنسان ما أن يشعر بأنه قد تحرر من قيد، جتى يبتكر قيودا جديدة سواء كانت ماثلة أمامه أو تنتسب الى الماضي ولكنها تتدخل في تفسير الحاضر. فكانت الثورة على المسيحية القديمة (سلطة الكنيسة)، ولا يكاد يمر قرنٌ من الزمان حتى تقوم الروح بمحاربة ما كان قد ساد خلال القرن المنصرم!

يقرر فوكوياما أنه ليس ثمة صالح عام، فكل الجهود الساعية الى تعريفه إنما تعكس قوة القائمين بالتعريف. ومن المؤكد أن الصالح العام الذي يوفر رضا خاتم البشر عن ذاته أمرٌ ضعيف الشأن. ذلك أنه لم يعد هناك حراس على قدرٍ جيد أو سيء من التدريب، وإنما نرى حراساً تتفاوت درجة غضبهم، وسيكون المعيار الرئيسي للتمييز بينهم من الآن فصاعدا هو شدة غضبهم، أي قدرتهم على فرض (قيمهم) على الآخرين.

(5)

هل يعيد التاريخ نفسه؟ على رأي أرسطو، باعتبار التاريخ دوريا لا متصلا، على أساس أن كافة النظم التي قامت وتقوم لن ترضي كافة البشر بنفس القدر. وهل تعتمد الرأسمالية على أخلاقيات أشباح المعتقدات الدينية الميتة؟ أم أن العالم سيتقدم نحو إشباع الرغبات واعتراف الآخرين؟

إن ساقَيْ هذين الاحتمالين غير متساويين، وقد افترض (نيتشه) جوابا للتخلص من تلك الدورة بالتخلي تماما عن الجانب الروحي، ويدعم وجهة نظره ما يشاهده العالم هذه الأيام من الاستخفاف من دوافع الحربين العالميتين الأولى والثانية وكذلك بقية الحروب، فهل من المفيد أن نفتخر بقتل عشرات الملايين بتلك الحروب، وهل من المفيد أن ندمر مدننا ومنجزاتنا منجرين وراء دوافع الروح؟

إن مسار التاريخ خلال العقود الماضية ينبئ أنه من الممكن أن نصل الى خاتم البشر، ولكن انبعاث الروح القومية في مناطق مختلفة من العالم سيضعنا أمام احتمالين: إما أن تتفتح ألف زهرة مختلفة تزيد من جمالية العالم، أو أن ألف عربة ستتوجه لتدمير كل ما أنجزه البشر.

انتهى

__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس