عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 25-04-2008, 12:56 PM   #2
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

[FRAME="11 70"]
أيَـبـُلُّ ظمــآنا ً سـرابُ ؟ ويجودُ بالعَـسَـل ِ الذبابُ ؟
أمْ يـسْـتحي مـن نـابـِهِ ضبعٌ .. ومِخلـَبِهِ عُقابُ ؟
أمُـحَـررٌ هــذا الـلـئـيـمُ المــارقُ الـوَغــدُ الـمُـعـابُ ؟
ألـمُـسْـتجـيـرةُ مـن نـذالـتِـه ِ الـنـذالــة ُ والـخـَـرابُ ؟
ألمُشتكي من رجسِه ِ الشَرَفُ ، المروءة ُ، والكتابُ ؟
جـيشٌ خـلائـقـهُ الـرذيـلة ُ والـخـَنـا والإغـتـصــابُ !
جاؤوا فـخـَيَّـمَ في العراق ِ القهـرُ واحـتفـلَ العـذابُ !
بـغـدادُ مـرعى .. والـنواطـيـرُ: الأفـاعي والـذئـابُ !
عَجَـبي على بعض الـنـفـوس ِ لها بمحتـلّ ٍ رغــابُ !
رَقـَصَـتْ له رقصَ الـقـرودِ وسالَ من فمها اللعابُ !

أصبحت إستحالة العودة منفىً آخر للشاعر ، لكنها أقسى عليه ما دام لا يستطيع تجاهل ما يحدث من قتل عشوائي وكيديّ أفرزته الفتنة الطائفية والمحاصصة السياسية .. إنه يتمنى لو كان بمقدوره تجاهل ما يحدث .. ولكن كيف له تحقيق ذلك وهو المتماهي بحبيبته العراق :

كيف الهروبُ منكِ
إذا كنت متحدا ً بك :
إتحادَ العطر ِ بالوردة ..
والخضرةِ بالحقل ..
والراية ِ بالسارية ..
والجذور بالطين ؟
تخرجين من باب اليقظة
فتطـلـّينَ من شبابيك الحلم !

الوطن في شعر المنفى لدى " يحيى السماوي " يطلّ بصورة امرأة معشوقة فهي مرآته وجنته وجحيمه ، لكنها لا تتخذ إسما ًمحددا مثل " ريتا " في شعر محمود درويش .. ليس لها إسم محدد عند السماوي لأنها كل الأسماء .. هي إمرأة غامضة الملامح ، تعذب محبوبها فيصبر ، وتوعده فينتشي .. وقد يلتمس صورة الوطن في الزوجة الصابرة " أم الشيماء .. شريكته في الحقل والخيمة وغبار السفر " على حدّ تعبيره في ديوانه ( عيناك لي وطن ومنفى ) :

خـَبَـرَ الهوى قلبي فكنت ِ صديقتي
ورفـيقـتي .. وحبيبتي .. ومَــلاكي

سَـنَدي وعُكـّـازي يداك ِ.. فخيمتي
لـولاك ِ قـد كانـت بـدون ِ سِــمـاك ِ

علـَّمْتِني صبرَ الرمال ِعلى اللظى
أيُـلامُ لـو هـَتـَف الـفـؤادُ : فِـــداك ِ ؟

" وجـدانُ " ما عـادَ النخيلُ تميمَة ً
لـفـتى ً.. ولا عـاد العـراقُ حِـمـاك ِ

بـتـنا ثكالى الحلم ِ .. بـيـن مُـخـاتِل ٍ
لــُـصّ ٍ وغــول ٍ فـاســق ٍ أفـّــاك ِ

دائي عَـصِيٌّ ـ كالـعـراق ـ شِـفـاؤهُ
فأنا الضحوكُ.. المُسـتباحُ.. الباكي

حاشا غصوني أن تخون جذورَها
ويخون نخـلـُك ِ مـاءه .. حـاشـاك ِ

**
في بدايات هربه من العراق ، كان حلم العودة يراود الشاعر السماوي الذي عقد آماله على ثورة شعبية أو عسكرية تضع حدّا ً للديكتاتورية الفردية والحزبية وتفسح في المجال لقيام سلطة الشعب .. لكن كوثر هذا الأمل تبخـّرَ بجمر الإحتلال ، فأسلم الشاعرَ إلى التشاؤم ، بل إلى مرحلة هي بين التشاؤم والتفاؤل ، كان الروائي الفلسطيني" أميل حبيبي " قد سـمّاها " المتشائل " .. فحينا ً يشدّه إيمانٌ بقوة الشعر في تفجير الغضب الشعبي ، وحينا ً يسلمه يأسه إلى الإحباط .. فبدا الشاعر وكأنه منقسم على ذاته ، فاقدٌ لتوازنه :

لا تسـأليني مَـنْ أنا
فإنني أجهلُ مَنْ أكونْ ..

كلّ الذي أعرفهُ عني :
أنا مدينةُ الحكمة ِ
لكنّ الذي يدخلها
لابدَّ أن يُصابَ بالجنونْ

وفي بحثه عن الوطن المفقود ، يؤمن السماوي بالشعر ثم يكفر بالقصيدة والكلمات .. يتأرجح بين اندفاعه إلى القبض بمشاعره على شعاع الحلم الهارب ، ثم يرتدّ محبطا ً معترفا ً بعجزه شاعرا ً وعجز اللغة أداة َبيان ... فيريد ولا يريد .. يريد العودة إلى حبيبته التي وصفها بأنها " حبيبة من تراب وماء ونار " ... لكن " هنده " هذه مشدودة إلى سرير المحتل بحبل ٍ من سرفات الدبابات ... الوطن كله محتل ، وليس فيه فسـحة ٌ تـَسَـعُ كوخا ً يشيده بطين الحرية :

فـتـَّشـتُ في قاموس ذاكرتي
نخلتُ الأبجدية َ
غـُصْـتُ في كتب البلاغة ِ والبيان ِ
بحثتُ في دُرَر ِ الكلام ِ
فما رجعتُ
بغير يأسي من طريفي والتليد ْ

ماذا أسمّي هند ؟
هندٌ ضحكة ٌ عذراءُ ما مـرّتْ على شـفة ٍ ..
وقافية ٌ مُـبَـلـّلة ٌ بدمع الوجد ِ..
أغنية ٌ تـُرَتـِّلها الحَمامة ُ ..
وردة ٌ كانت بمفردها الحديقة َ ..
صولجانُ العشـق ِ في الزمن الجديدْ !

وأنا الشهيدُ الحَـيُّ ..
سـادِنـُها ..
وحارسُ باب ِ حجرتها العنيدْ

وأنا طريدُ الجنة ِ المحكومُ بالعَـطـَش ِ المؤبَّـد ِ
والمكوث ِ وراء سـور ِ الوصل ِ
أحملُ صخرة َ الحرمان ِ في الوادي السعيدْ

وأنا أريدُ
ولا أريدْ :

جُـرحا ً أموتُ به ِ
لأولدَ في هواها من جديدْ

وأنا أريدُ
ولا أريد

كوخا ً على سَـعَـة ِ الهوى
لا كنزَ " قارون ٍ "
ولا أملاكَ " هرون الرشيدْ "

إنه الشعور بالخيبة والإحباط .. الشعور بضبابية الأشياء .. فالمحرر المزعوم قد أعلن عن نفسه محتلا ً .. وما دام الوطن محتلا ً ، فالشعب محتلُ هو الآخر بالضرورة ... أمّا هوـ الشاعر ـ فإنه أيضا ً مُحْـتـَلُ الروح وإنْ كان في مغتربه حرَّ الجسد :

لسـتُ حُـرّا ً فأطلُّ عليك من الشرفات ..
ولا عبدا ً فأحطـّم قيودي !
أنا العبدُ الحرّ
والحرّ العبد..
محكومٌ بانتظار " غودو " جديد
لم تلده أمّـه بعد !

**
تمكنه من اللغة ملفت للنظر .. فإذا كنا مكبّـلين بقيد عجزنا اللغوي عن تصيّد ما نحسّ به ، فإن " السماوي " يملك حرية تشكيل اللغة واستنطاقها وتطويعها للإفصاح عما يريد ، وعن أدق خلجات روحه ، وكأن الألم كتاب مفتوح للتأمل ، يقرأ صفحاته التي لا نراها ، ويشطره إلى إثنين ، واحد يعيش في الذاكرة ، وآخر في الحاضر ، لكنهما يتحدان في النهاية ، ويذوبان في عشق الوطن :

سـأفـرُّ مني

لأضيع َ فيك ِ ضَـياعَ حلم ٍ
بين ذاكرة ٍ وجـفـن ِ

مُتـَماهيا ً بالياسمين وبالقـُرُنفـُل ِ
نافِـضـا ً عني رمادَ حريق ِ أمسي
فاطمئني

إنْ جُـنَّ قلبي الطفلُ
وانتفضتْ
على صمتِ الربابة ِ
في منافي العشـق ِ
حنجرة ُ المغني

فلقد تعِبْـتُ من الوقوف ِ
مُـكـَبَّـلا ً
بقيود ِ ظني

سـأفـرّ مني

لأقيمَ في وادي هواك ِ
إقامة َ الأقفال ِ
في أبواب ِ سـجْـن ِ

وأضيع َ فيك ِ
ضـَـياعَ ظبية ِ ضحكـتي الخضراء
في غابات حزني

سـأعودُ منك ِ إليَّ
بالجسَـد ِ العصيِّ على السـكونْ

وأكون فيك ِ
كما تـُحِبُّ طقوسُ عشـقِـك ِ أنْ أكونْ

وأفـرُّ مني

ليظلَّ صـبحُك ِباحثا ً
في ليلك ِ الوحشيِّ
عني

**

في هذا الإنشطار في روحه بين الأنا والأنا فسحة ٌ للكلام والبوح ، لكنه كلام أقرب إلى الهذيان المصدوم ، وقد تحول إلى " غودو " لكن بثوب ٍ عراقي منكوب ، يستنفر اللغة ليفصح ، لكنه يشعر أنها لا تلبّيه أمام شدة الصدمة ، ونحن لا نحسّ بعجزه اللغوي ، وإنما يسحرنا تمكـّنه من تطويع اللغة ، لتكون حقلا ً محروقا ً بفيض نار قريحته التي لا تنطفئ .

ألمرأة أو الوطن بصورة إمرأة معشوقة معادلة تجمع لدى الشاعر " يحيى السماوي " بين الحب والإنسان ، لكنه حبٌّ يمتزج بالحرمان ويُفضي إلى الخيبة ، إلآ أنه يتشبث بحلم العودة وتحرير العراق . ولا يتحول عن حلمه ولو كان فيه موته الجسدي أو النفسي :

بين احتضاري في غيابك
وانبعاثي في حضورك :
أتـَدَلـّى مشنوقا ً بحبل أسـئلتي
مُـحَدِّقـا ً بـغـد ٍ مضى
وبالأمس الذي لم يأت ِ بعد !

وحين ينتصر عليه الواقع بدمويته ويعجزُ في صحوه عن تغييره ، يلجأ السماوي إلى احلام اليقظة مستنجدا ً بأخيلتها للإنتصار على أولئك الذين شوّهوا واقع الوطن وأشاعوا الرعب في أرجائه وأقاموا امبراطورياتهم المالية على حساب شعب جائع :

لو تـُحْسِـنُ الوسادةُ الكلامْ
لأخبرتك ِ عن بطولاتي التي أنجزها
من قبل أنْ أنامْ

منذ دهور ٍ وأنا
أقود خيلي
شاهرا ً سيفي بوجه :
القادة ِ الزور ِ..
الطواغيت ِ ..
اللصوص ..
موقدي الفتنة ِ في بستاننا
وهادري أغنية ِ العاشـق ِ
في حديقة الغرامْ

هزمتُ " هولاكو "
ودَحْرجتُ رؤوسَ سارقي
قوت ِ جياع ِ الوطن ِ المحكوم بالإعدامْ

حطـّمتُ ما في " المعبد الأبيض "
من أصنامْ

أعدتُ لـ " المنطقة الخضراء" عِـفـَّة َ الفراتين ِ
أقـَمْـتُ مهرجان َ القمح ِ والخـُـزامْ

لو تـُحْـسِـنُ الوسادة ُ الكلامْ

لأخبرتك عن بطولات الصعاليك ِ
الذين أغرقوا
بواخرَ النفط ِ التي تـُبْـحِـرُ نصفَ الليل ِ
باسم ِ خوذة ِ القائد ِ
أو عِـمـامـة ِ الإمامْ

لو تحسنُ الوسادة الكلامْ

لأخبرتك ِ عن دموع الذلِّ في الصحو
وعن كـرامة ٍ
أعيشـها في كـَنـَف ِ الأحلامْ !

بين عراق الأمس الذي كان يئن تحت سياط الديكتاتورية ، وعراق اليوم تحت رحى الإحتلال ، يتسقـّط الشاعر أخبار وطنه ، ويشمّ رائحة احتراقه عن بعد كما " يشمُّ البجع رائحة أنثاه عبر السواحل القصيّـة ".. ويقرأ تضاريس جسده كـ " الضرير الذي يرى الطريق بعصاه " .. ويشعر بدموع يتاماه تحت شمس الظهيرة وقد راعه أن عراق الخصب يُنـقـِّبُ أطفاله اليوم في براميل نفايات المطاعم .. عراق الغنى وقد أصبح وطنا ً للمتسولين ، إستبدل فيه أطفاله صناديق صبغ الأحذية بالحقائب المدرسية ، وآنية َالشحاذة بالدمى الملونة والأراجيح ، بينما ثرواته الوطنية تـُنـتـَهب من قبل المحتل وأصحاب الحوانيت السياسية وسارقي قوت الجياع وتجار الشعارات والإرهابيين الظلاميين المفخخة صدورهم بالحقد ..العراق الكبير، عراق الحضارات، وقد أضحى إضبارة ً من أضابير سفارة :

هل دولة ٌ
تلك التي تـُقـادُ من سفارة ٍ
إنْ عطسَ السفير ُ في ملجئه ِ
أُصيبت البلادُ بالزكام ْ ؟

خلـِّـيـكَ في منفاكَ
حتى ينجلي الظلامْ

**
بورك المنفى الذي يمنح الشاعر حرية القول ، لتكون قصائده أقوى وأعمق أثرا ً من الرصاص ، وبوركت قريحته التي تجعل من المنفى سفـرا ً للدخول إلى فضاء الحرية . إنّ في تضحية الشاعر أمام عذابات الغربة لونا ً من ألوان الشهادة الحية التي تموت أكثر من مرة مع كل صباح ، بينما يموت شهيد الجسد مرة واحدة .. بورك هذا الموت المتكرر مع كل نـَفـَس ٍ من أنفاس الشاعر المبدع لأنه طريق للحياة .. حياة الوطن والشعب . وليتمجّد الألم الذي يختزنه الشاعر منذ طفولته ملوِّنا ًبه رومانسية حلمه ... لم يكن ألما ً ينشد الخلاص ، بل أصبح لدى الشاعر " يحيى السماوي " طريقا ً لمعانقة الموت الذي يحرره . وإن آثاره العميقة في نفسه ستظل جرحا لا يشفى إلآ بالرحيل الأبديّ عن عالم يُظلم فيه الإنسان في مشهد مسرحيّ ساخر لا يحرّك الضمير الدولي .. هذا الضمير الذي كان يعرف بالأمس ضحايا الديكـتاتورية في العراق فلم يحرّك ساكنا ً .. ويعرف اليوم أن المحتلّ أكثر قسوة منه لأنه يستهدف استعباد شعب ٍ واحتلالَ وطن ٍ وتفتيت كيان موحّد ...
لقد فقدنا الإحساس بالفجيعة ، فبورك الشعر الذي يردّ الينا رهافة الحسِّ بالظلم لنستعيد إنسانيتنا ... وشعر " يحيى السماوي " من هذا النوع .


دمشق


* من كتاب بنفس العنوان قيد الطبع
[/FRAME]
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس