عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 29-12-2009, 09:18 AM   #47
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

القسم الخامس: داخل الحدود: الاختلاف والتراتب

الفصل الثامن والثلاثون: الآخرية والتراتب ..

تقديم: علي الكنز .. أستاذ في جامعة نانت ـ فرنسا

الآخر مكون للأنا.. ولا يفكر أحدٌ اليوم جاداً في أن يضع هذا الزعم موضع الشك. هكذا يبدأ الباحث الجزائري المقيم في فرنسا كلامه، ليسوق لنا براهينه من خلال بحثه.

أولاً: الأمكنة

تدور الوقائع سنة 1982 في مصنع جزائري، هو الأهم في البلاد: منشأة (مركب) الحديد الصلب في (عنابة). حيث كان يقوم الباحث بأطروحة قدمها للمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (cnrs) عام 1987.

يقول الباحث لقد عايشنا ولقرابة السنة كل أصناف الشغالين (عمالاً كانوا أو رؤساء فرق أو تقنيين أو مهندسين أو كوادر) نساءً ورجالاً، ومن جنسيات عديدة (فرنسيين، سوفييت، ألمان شرقيين، بولنديين، يابانيين...الخ)، وكان المجموع 18000 ألف منهم 16 ألف جزائري، ويقسمون لوحدات إنتاجية كل وحدة تستوعب ألف شخص. وكانت المنشأة (المركب) تشمل فرنين عاليين ومخزن للفحم الحجري و 3 مصانع للحديد، وعلى مصنع لتوليد الكهرباء، ومصنع للأنابيب، ومركزين للأكسجين وورشات صيانة الخ.

كان السوفييت والألمان أكثر عدداً من غيرهم من الأجانب، إذ كان عددهم يناهز 500 شخص لأنهم كانوا يؤمنون انطلاق حجرة الفحم والمصفحات ذات السلوك والدوائر ويشتغلون بالتناوب مع العمال والفنيين الجزائريين. ورغم كثرتهم واحتكاكهم الأكثر مع الجزائريين فقد كانوا مثار جدل عند الأوساط النقابية الجزائرية.

وكان الفرنسيون والذين كانوا في أصل إنشاء هذه المنشأة، وإن كان عددهم لا يزيد عن خمسين، فإن المنشأة كانت متسمة ببصماتهم. أما اليابانيون فكانوا مجموعة صغيرة لإعمال الرأي في مشكلات الصيانة، وكانت أكثر مجموعة تتصل ب 4000 فني مساعد (عون)، وأكثر مجموعة تثار حولها التعليقات الطريفة.

ثانياً: الجو

وهكذا اجتمعت كل العناصر المقومة لإعطاء الحياة الاجتماعية في المنشأة (المركب) ذلك الجو، (جو التنمية) الذي وسم السبعينات وسما عميقا والذي منح ثقافة تلك الفترة نبرة جمالية (أفلام، أفلام توثيقية، روايات ..الخ) سواء في الجزائر أو غيرها من بلدان العالم الثالث. كانت تلك المنشأة ـ المدرسة بحجمها وتنوع التقانات المقامة فيها، والحركات الاجتماعية التي تستقطبها حولها، تعبيراً تاماً أو يكاد عن النموذج المغالي في نزعته التنموية وقتئذٍ.

استطاع الباحث من خلال هذا التنوع الكبير في الرتب المهنية والجنسيات المختلفة أن يرصد ويقارن ما جاء في بطون الكتب عن الصراع الاجتماعي والطبقي وتنظيم العمل الخ.

فكانت هناك نزاعات حول مشاكل الأجور وتفاوتها ونزاعات حول المنح والنقل والطعام والترقية الخ.

ثالثاً: الوقائع

شملت الوقائع كل الأمور التي كان الباحث يريد التحقق منها (على الميدان)، والتي وجدها هنا مجتمعة ومتوفرة في جميع الأشكال الممكنة والمتخيلة. وقد هاله ما لم يكن يتوقعه وهو الموقف من المساعدة التقنية الأجنبية (a.t.e).

(1)

كان الشغالون ـ عمالاً ورؤساء فرق ـ يوجهون اللوم الى مُسيري المنشأة (المركب) بواسطة النقابة على الاستنجاد ب (المساعدة التقنية الأجنبية a.t.e) لإخفاء قصور كفاءتهم. وتدلل الرسومات الكاريكاتورية التي كانت النقابة تنشرها في صحيفتها على ذلك، حيث كانت تبرز صور المساعدين الأجانب في وضع (استرخاء) أمام الشمس، في حين يضني العمل الشاق الجزائريين.

وتذكر الصحيفة نفسها انتقادات تؤشر على أن هناك عمال أجانب لا يتمتعون بأي تفوق على نظرائهم الجزائريين من حيث المهارة والعلم، ولكنهم يتقاضون أجوراً تعادل عشرة أضعاف ما يتقاضاه الجزائريون.

لم تكن العلاقات بين الجزائريين والوافدين عدائية، لكنها كانت دائما متحفظة وفاترة، وقلما كانت ودية.

(2)

تمكن الباحث على المستوى الأول من التحليل، أن يفهم أن الشغالين الجزائريين كانوا يستشعرون في حضور هؤلاء الأجانب إهانة لهم ودليلاً ملموساً على عجزهم في تحقيق المهام المنوطة بعهدتهم. هذا بالإضافة الى الفوارق بالأجور، فكانت الشكوك حول جدوى استقدام هؤلاء.

من جانب آخر، لوحظ أن الشغالين الجزائريين منتبهون لأدق تفاصيل تصرفات أولئك الأجانب، ولكنهم يصفونهم بصفات قد تكون غير دقيقة مثل: الروس شغالون والفرنسيون سيئون واليابانيون أصحاب جدوى، والألمان يشتغلون بضراوة الخ.

(3)

لم يقنع التحليل الأولي الباحثَ، فذهب للتدقيق فيما وراء ذلك السلوك، ويبحث عن الآخر الحقيقي في الموضوع.

تبين له أن هناك اعتقاداً مترسخاً في نفوس الشغالين، بأن المسئولين قد جلبوا هؤلاء الأجانب ليهينوا الآخر الجزائري المحكوم، وليثبتوا له أن الجزائري لا يساوي شيئاً دون الاستعانة بالأجنبي، وأن ذلك مرده الى الشعور بالنقص من جهة المسئولين أنفسهم تجاه قدرتهم على إدارة البلاد بقبول أبناء البلاد، فكانوا يبعدونهم عن تحمل المسئوليات المباشرة!

لقد تبين للباحث أن بنية النزاع ليست ثنائية (أنا والآخر) بل ثلاثية: من جهة أولى (الأنا) وقد انقسم الى قسمين مسيرين وعمالاً. ومن جهة ثانية الآخر، وقد شُد بين القطبين كالكماشة.

خاتمة

يروي (ملابرت) في رواية (الجلد) مغامرة ضابط أمريكي كان يتجول ليلاً في شوارع نابولي، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لينشد المتعة، اعتنى به أحد الأطفال ليقوده الى المكان المنشود. وفي أثناء الطريق كان الضابط يتنقل بين الأيدي والشرفات من دون التفطن الى ذلك. فبالنسبة إليه وهو الذي كان هائما في عالم غريب عنه، كل أطفال نابولي يتشابهون تشابها يذكر بالليل الهيغلي الذي تكون فيه كل البقرات رمادية اللون.

وعندما اكتشف الإسبان (الأزتيك) لم يقم هؤلاء بأية مقاومة ضدهم، فنصوص الأزتيك المقدسة علمتهم أنه لا يمكن أن تفد إليهم إلا الآلهة وحدها. ولكن عندما اكتشفوا أن الأسبان ليسوا إلا أناسا شرسين مشغوفين في كسب الذهب، كان الوقت قد انتهى وكان السيف قد سبق العذل.

إن الخبير الأجنبي الوافد للجزائر، كان يؤسس لآخر على قياسه هو، مثله مثل الضابط الأمريكي والأسباني الذي كان يقدم نفسه بمظهر الآلهة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس