عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-06-2006, 02:39 PM   #32
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

( 3 )

لو جلس أحد المثقفين من العصر الحاضر بين جماعة من البدو ، وتكلم معهم بلغته التي يتكلم بها باقي المثقفين ، لرأى عيون البدو تدور شمالا ويمينا مستنكرة ما تسمع ، و متباهية في استنكارها أيضا ، فالعربي بنظر هؤلاء هو من يلتزم بموسيقى اللغة و انسيابيتها ، وفحول الشعر القدماء كانوا يكتسبوا صفة الفحولة ، من التزامهم بتلك الصفتين الموسيقى و الانسيابية في اللغة ..

وعليه عاشت اللغة العربية بقرونها الطويلة ، طالما كان يرمي أبناؤها الحريصون على نقائها ، كل ما يدخل على لغتهم من غريب .. فالجديد بنظرهم (يشم و يرمى في المزابل ) والقديم كلما زاد في قدمه وتعتق كلما زاد أصالة ..

إذا كانت صفة العفوية و الاعتماد على السماع عند البدو ، هي ما جعلتهم يحتفظون بنقاء اللغة العربية . فإن تلك الصفة هي ما أسرت علماء اللغة و النحو الذين وضعوا سياجا حول بدوية اللغة ، بحيث و ضعوا قوالب قوية أشبه بشبك الحماية على السجون أو المتاحف .. فلم يكن من السهل خروج محتويات المتحف ، أو إدخال ممنوعات لمن يسجن داخل السجن ..

إن تلك الأنفة والاعتزاز باللغة ، هي ما دفعت علماء الكلام من المعتزلة النظر باستهجان للمنطق الغربي الذي دخل مع الترجمات ، و أصبح له شيوخ ومنظرين ومبشرين ، والمناظرة المشهورة التي دارت بين كل من ( أبو البشر متي بن يونس ) وكان مشهورا بقدرته على الحديث لساعات ، مبشرا بفلسفة ومنطق أرسطو .. وكان يغمز بجانب فضل الفلسفة والمنطق الغربي على الحضارة العربية الإسلامية .. وبين ( أبو سعيد السيرافي ) .. أحد علماء الكلام المشهورين ، وذلك في مجلس الوزير ( الفضل بن جعفر بن الفرات ) وزير الخليفة العباسي (المقتدر ) .

قد نعود الى تلك المناظرة بشيء من التفصيل ، ولكنها كانت تنم عن رفض ومعاندة أنصار التمسك بالعربية و علومها ، وتبيان تقدمها على المنطق الغربي ، فعندما يسأل ( أبو سعيد السيرافي ) مناظره ( أبو البشر) : هل يجوز أن نقول زيد خير أخوته ؟ .. فيجيب (أبو البشر) : نعم يجوز .. ثم يعود أبو سعيد فيسأله : هل يجوز أن نقول : زيد خير الأخوة ؟ فيجيب (أبو البشر) على الفور : نعم يجوز !

فيبتسم أبو سعيد زاهيا بانتصاره وقائلا : أجبت في الأولى و أخطأت الإجابة ولم تكن مدركا أنك أخطأت .. و أجبت في الثانية و أصبت و لم تكن مدركا بأنك أصبت ..

فيستهجن ( أبو البشر ) كلامه ، ويتساءل : أليس الإجابتان مثل بعض ؟

فيرد أبو سعيد : عندما نسأل هل يجوز أن نقول أن زيدا خير أخوته ، فإن كان أخوة زيد (أحمد و محمد ومحمود) .. فإن زيدا لم يكن بين أخوته .. ولكن عندما نقول زيد خير الأخوة فيكون ( أحمد و محمد ومحمود وزيد ) مشمولين بالمفاضلة .. وهي الأصوب ..

وهنا يشرح ( أبو سعيد السيرافي ) : استصغار فكرة حصر المنطق بالغرب ، فيقول للصينيين منطق و للأفارقة منطق ، وللفرس منطق ، وللعرب منطقهم ، وكل ذلك يتبع اللغة !

في كل عصر يظهر من يكرس اعتزاز أبناء الأمة بخصائص أمتهم ، فبعد المعتزلة ..أفرد أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ، كتابا أسماه (الرد على المنطقيين ) .. بين فيه ثغرات هائلة في طريقتهم بالتفكير .. و إن كان يعتمد الجانب الديني في المحاكمة ، لكن الكتاب مليء بما يعزز فكرة صعوبة تقبل النمط (العقلي ) المولد خارج رحم الأمة .*

كما أن في العصر الحديث ، يظهر صراع بين الحركات الفكرية و الثقافية ، يطال حتى الشأن السياسي ، يكون منبع هذا الصراع ، هو الاتفاق على خط ابتداء حركة التأسيس لشكل الدولة ، وخلفية ذلك التأسيس المعرفية و ( الفقهية) .. وهذا ما يفسر اختلاف من يعتمدون الدين كأساس للإنطلاقة مع القوميين ، مع اليساريين .. *


وان كان من يؤمن في هذا الطرح و يفلسف له في العصر الحديث ، كالمفكر (الجابري ) والمفكر ( عبد السلام بن عبد العالي ) وكلاهما مغربيان ، فإن هناك من يستهجن مثل هذا الطرح ، محتكما لمعالجة المفكر المجري ( جورج لوكاش) عندما يناقش فلسفة الغرب الحديث ، و يرفض ربطها بالفلسفة اليونانية القديمة ، بل جعلها تنبع من خصوصية البنية الأساسية للوعي الاجتماعي السائد في الرأسمالية الأوروبية * .. وهو كلام يحمل وجاهته .. إذا ما حيدنا أثر اللغة تحييدا كاملا ..

ـــــــــ
المراجع :
الرد على المنطقيين / احمد بن تيمية / دار المعرفة / بيروت
هجرة النص الفلسفي / مقالة ل ( عبد السلام بن عبد العالي )
هل هناك عقل عربي ؟/ د هشام غصيب ص 92
تكوين العقل العربي/ د محمد عابد الجابري / مركز دراسات الوحدة العربية
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس