عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-08-2008, 12:28 PM   #50
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

تعاليم حُوريَّة *
(1)
*

فَكَّرتُ يَوماً بالرحيل , فحطّ حَسُّونٌ على يدها ونام .

وكان يكفي أَن أُداعِبَ غُصْنَ داليَةٍ على عَجَلٍ ... لتُدْركَ أَنَّ كأس نبيذيَ امتلأتْ .

ويكفي أَن أنامَ مُبَكَّراً لَتَرى مناميَ واضحاً , فتطيلُ لَيْلَتَها لتحرسَهُ ...

ويكفي أَن تجيء رسالةً منّي لتعرِف أَنْ عنواني تغّير , فوق قارِعَةِ السجون ,

وأَنْ أَيَّامي تُحوِّمُ حَوْلَها ... وحيالها



**

أُمِّي تَعُدُّ أَصابعي العشرينَ عن بُعْد .
تُمَشِّطُني بخُصْلَّة شعرها الذَهَبيّ
تبحثُ في ثيابي الداخلّيةِ عن نساءٍ أَجنبيَّاتٍ وَتَرْفُو جَوْريي المقطوعَ .

لم أَكَبْر على يَدِها كما شئنا :

أَنا وَهي , افترقنا عند مُنحَدرِ الرَّخام ... ولوَّحت سُحُبً لنا , ولماعزِ يَرِثُ المَكَانَ .

وأَنْشَأَ المنفى لنا لغتين :

دارجةُ ... ليفهمَهَا

الحمامُ ويحفظَ الذكرى , وفُصْحى ...

كي أُفسِّرَ للظلال ظِلالَهَا !













(2)

***

ما زلتُ حيَّا في خِضَمَّكِ .

لم تَقُول الأُمُّ للوَلَدِ المريضِ مَرِضْتُ من قَمَرِ النحاس على خيامِ البْدوِ .

هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنانَ , حَيْثُ نسيتني ونسيتِ كيسَ الخُبْزِ

[ كانَ الخبزُ قمحيَّاً ] ولم أَصرخْ لئلاّ أُوقظَ الحُرَّاسَ حَطَّتْني على كَتِفْيكِ رائحةُ الندى .

يا ظَبْيَةُ فَقَدَتْ هُناكَ كنَاسَها وغزالها ...

عَجَنْت بالحَبَقِ الظهيرةَ كُلَّها .

وَخَبَزْتِ للسُّمَّاقِ عُرْفَ الديك .

أَعرِفُ ما يُخَرَّبُ قلبَك المَثّقُوبَ بالطاووس , مُنْذُ طُرِدْتِ ثانيةً من الفردوس .

عالُنا تَغَيَّر كُّلَّهُ فتغيرتْ أَصواتُنا حتَى التحيَّةُ بَيننا وَقَعَتْ كزرِّ الثَوْبِ فوق قولي أَيَّ شيء لي لتَمنَحني الحياةُ دَلالَها .



****

هي أُختُ هاجَرَ أُختُها من أُمِّها .
تبكي مع النايات مَوْتى لم يموتوا .

لا مقابر حول خيمتها لتعرف كيف تَنْفَتِحَ السماءُ ولا ترى الصحراءَ خلف أَصابعي لترى حديقَتَها على وَجْه السراب , فيركُض الزَّمَنُ القديمُ بها إلى عَبَثٍ ضروريِّ :

أَبوها طار مثل الشَرْكَسيِّ على حصان العُرسْ



(3)





أَمَّا أُمها فلقد أَعَدَّتْ , دون أن تبكي لِزَوْجَة

زَوْجِها حناءَها , وتفحَّصَتْ خلخالها ...



*****

لا نلتقي إلاَّ وداعاً عند مُفْتَرَقِ الحديث .

تقول لي مثلاً :

تزوجَّ أَيَّةَ امرأة مِنَ الغُرباء , أَجملُ من بنات الحيِّ , لكنْ لا تُصَدِّقْ أَيَّةَ امرأة سواي .

ولا تُصَدِّقْ ذكرياتِكَ دائماً .

لا تَحْتَرِقْ لتضيء أُمَّكَ , تلك مِهْنَتُها الجميلةُ.

لا تحنُّ إلى مواعيد الندى .

كُنْ واقعيَّاً كالسماء .

ولا تحنّ إلى عباءة جدِّكَ السوداء , أَو رَشَوَاتِ جدّتك الكثيرةِ وانطلِقْ كالمُهْرِ في الدنيا .

وكُنْ مَنْ أَنت حيثَ تكون .

واحَملْ عبء قلبِكَ وَحْدَهُ ...وارجع إذا اتسَعَتْ بلادُكَ للبلاد وغيَّرتْ أَحوالهَا ...



(من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" 1995)











السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس