عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 04-04-2024, 07:48 AM   #2
رضا البطاوى
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2008
المشاركات: 6,007
إفتراضي

"سادساً: لابد من التفريق بين نوعين من الإستقراءات فهناك نوع يلاحظ فيه جانب السببية بين ظاهرتين مقترنتين معاً، مثل قولنا: إن تمدد الحديد يحصل بسبب الحرارة كما هناك نوع آخر لا ينظر فيه إلى السببية، بل تقرر فيه الحقائق الثابتة الاطراد، مثل قولنا: ان المادة آخذة في التحول نحو الطاقة، وان الطاقة تنتقل من المستويات العالية لها إلى المستويات المنخفضة، وان العادة الإنسانية تميل إلى التطورين الكمي والكيفي في السلوك، وان الانتحار يتناسب عكسياً مع التماسك الاجتماعي، وان الشمس تشرق وتغرب، وان السمك يعيش في الماء، وان اغلب الناس جاهلون، وما إلى ذلك مما لا يحصى
ويلاحظ في النوع الأول انه ينطوي على العلم بالسببية في العلاقة الإستقرائية، في حين لا يتضمن النوع الثاني هذا المعنى وتبعاً لهذا التمييز يمكن ايضاح كيف تتدرج المعرفة الإنسانية، حيث تبتدئ اولاً بإدراك النوع الثاني من الإستقراء، ثم يتحول الأمر إلى إدراك النوع الأول منه وعادة ما تتركب العلاقة التكاملية بينهما وفق تأسيس النوع الثاني على الأول فمثلاً ان الدراسات الاجتماعية تبتدئ أولاً بعملية المسح الاحصائي لدراسة أنماط السلوك الفردي والاجتماعي، وذلك قبل ان تشرع في البحث عن الاسباب والدوافع التي لها علاقة بهذه الأنماط وهذا يعني ان العلاقة بين الامرين هي علاقة تتحدد بمستوى الدقة والسعة، حيث ان النوع الأول ادق واوسع من الثاني"
وما قاله يحيى محمد عن أن الأقوال العمومية لا تقوم على ربط سببى خطأ فهناك اقتران سببى ولكنه لا يظهر للناس فالإنسان لا يستنتج تلك الأقوال دون تجربة او رؤية متكررة أو دون معرفة مسبقة من الوحى الإلهى والتى تثبتها الوقائع كما قال تعالى :
" ولتعلمن نبأه بعد حين"
وانتقد يحيى محد المنطق الأرسطى مبينا أحد عيوبه فقال :
"وعليه رغم أن للمنطق الأرسطي تمييزاً للعمليات الإستقرائية يشابه ما ذكرناه سلفاً، كتمييزه بين التجريبيات والحدسيات، لكنه - على ما يبدو - لا يميز بينهما من حيث الدقة والسعة المعرفية وطبيعة ما يمكن أن ينشأ بينهما من العلاقة التراكبية، وبالتالي لا يعير لهذه المعرفة من اهمية، خاصة وانه يعدهما من القضايا العقلية"
وتحدث عن استنتاج قانون عام من القوانين الجزئية فقال :
"سابعاً: في كثير من الأحيان، تتركب القوانين الإستقرائية فيما بينها حتى تؤلف قانوناً عاماً وشاملاً يتجاوز مرحلة الظروف المقترنة باكتشاف القوانين الجزئية؛ كل على حدة، كالذي يوضحه قانون الانتحار الاناني لعالم الاجتماع الفرنسي دوركايم، حيث درس جملة من الظروف المختلفة التي لها علاقة بظاهرة الانتحار، فتوصل إلى ان نسبته في المدن تزداد عما عليه في القرى، كما تزداد عند العزاب أكثر من المتزوجين، وعند المتزوجين أكثر ممن لهم اطفال، ولدى هؤلاء أكثر ممن لهم عدد أكبر من الاطفال والعيال كما تزداد نسبته لدى المنتسبين للمذهب البروتستانتي أكثر من المنتسبين إلى المذهب الكاثوليكي، ويزداد أقصى حدّ للانتحار عند من يسمون بالاحرار، في حين أن أقل نسبة لهذه الظاهرة هي لدى اليهود
فهنا لدينا مجموعة من الدراسات ذات الظروف المختلفة، وكل دراسة تفضي إلى قانون إستقرائي، ومجموعها يؤلف مجموعة القوانين الإستقرائية، ومنها تم إستنتاج القانون العام الذي يضمها جميعاً، والذي يؤكد بأن الانتحار يتناسب تناسباً عكسياً مع التماسك الاجتماعي وواضح ان هذا القانون ليس فيه أثر للظروف التي تمت فيها القوانين المختلفة السابقة مما يعني انه لا يخضع للشرط الخاص بمراعاة الوحدة الظرفية كما فرضها المنطق الأرسطي لاجل إنتاج الإستقراء الصحيح
كما ان عنصر التركيب في قانون الانتحار لا يخضع للمتطلبات التي الزمنا بها هذا المنطق ذلك انه إذا كان من الممكن الاستفادة من المنطق الأرسطي في تطبيق مبدأ (عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً) على العلاقة الخاصة بين ظاهرة الانتحار والمدينة مثلاً، أو بين هذه الظاهرة واي ظرف اخر، فإنه من الصعب تطبيق ذلك على العلاقة بين الانتحار والتماسك الاجتماعي، وذلك بإعتبار ان هذا التماسك ليس ملحوظاً في الإستقراءات أو النسب الاحصائية المختلفة الآنفة الذكر ولو قيل ان النتيجة في القانون الأخير يمكن استخلاصها عبر مبدأ الحدس وفقاً للمفهوم الأرسطي، لقلنا انه يشترط في الحدس - حسب هذا المفهوم - معرفة ماهية السببية، وليس في القانون السابق أي اشارة تدل على هذه الماهية فعدم التماسك في حد ذاته لا يؤدي إلى الانتحار، وإلا لكانت كل عزلة مفضية إليه لا محالة
يضاف إلى ذلك ان المبدأ الأرسطي السابق ليس بوسعه المصادقة على الإستقراءات الجزئية التي يتضمنها قانون دوركايم فمثلاً لو قدّرنا عدد نفوس إحدى المدن بمليون نسمة، وقد اظهرت الاحصاءات ان نسبة الانتحار في هذه المدينة هي بمعدل خمس حوادث في الشهر الواحد وعليه هل يمكن تطبيق المبدأ السابق على هذا المقدار؟
حقيقة الأمر هو ان المبدأ الأرسطي يفترض ضرورة حصول الكثرة أو الدوام في التكرار والحدوث في حين أن المقدار المذكور هو في غاية الضآلة مقارنة بعدد نفوس المدينة، وبالتالي فإنه يشكل بمثابة الصدف العارضة التي لا إعتبار لها بحسب المنظور الأرسطي هذا فضلاً عن أن طبيعة التعميم في القانون الاحصائي تختلف عن طبيعة التعميم في القضايا الإستقرائية الأخرى التي يصدق عليها المنطق الأرسطي فالقانون الاحصائي يرتكز على المسحة العامة دون ان يكون له تأثير بالضرورة على العناصر الفردية، فحين نقول ان الانتحار يتناسب طردياً مع العزلة، لا يعني ان كل من يتصف بالعزلة من شأنه الانتحار، وذلك لأن طبيعة هذا القانون غير ناظرة للجانب الفردي، بل لها مسحة عمومية في حين أن القضايا الإستقرائية الأخرى التي اعتمد عليها المنطق الأرسطي لا تنطوي على مثل هذه المسحة (العامة)، بل ناظرة إلى العناصر الفردية كشرط لا غنى عنه في صحة التجربة والتعميم فمثلاً حين نقرر بأن السقمونيا يسهل الصفراء، فهذا يعني ان من شأن كل سقمونيا ان يسبب الاسهال ولو لم تحصل هذه النتيجة أحياناً، لكان ذلك على سبيل الشذوذ بسبب تدخل بعض الصدف العارضة وهذا الحال لا يجري على القوانين الاحصائية كما هو واضح"
قطعا ما وصفه يحيى محمد بأن الانتحار يزداد من خلال قلة التماسك الاجتماعى ويقل بالتماسك الاجتماعى ليس قانونا فالانتحار له علاقة واحدة فقط وهى الإرادة الإنسانية فهى من تعلن الانتحار أو عدمه ولذا كان من المفترض طبقا للقانون أن ينتحر المسلمون فى عصر كل رسول لقلتهم وعدم تماسكهم مع مجتمعاتهم ولكن الحادث أن أحدا منهم لم ينتحر
وفى حادثة شهيرة فى عصرنا انتحر المتماسكون اجتماعيا جميعا من خلال جماعة المعبد فى غوايانا وحالات القرابين البشرية الطوعية أيضا نقض للمبدأ الدوركايمى
وتحدث عن صعوبة تبرير المنطق الأرسطى للقضايا الاجتماعية فقال :
"ثامناً:
من الصعب على المنطق الأرسطي ان يبرر القضايا الإستقرائية المستمدة من العلاقات الاجتماعية، وذلك لأن هذه العلاقات كثيراً ما تكون متشابكة ومعقدة وذات تأثيرات متبادلة، كما انها تتأثر بعوامل أخرى مختلفة فلا يكفي في مثل هذه الدائرة الاعتماد على مبدأ عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً، حيث لا بد من الاستعانة بقرائن أخرى تفيد في الكشف عن تلك القضايا فمثلاً إذا لاحظنا ظاهرة إقتران التطور الاقتصادي بالتطور الاجتماعي، يمكن أن نستنتج طبقاً للفهم الأرسطي ان بينهما سببية ما، وإلا لما إقترنا بهذا الشكل المستمر، ومن ثم باستطاعته تعميم الظاهرة إلا انه من حيث الدقة يجب ان نميز بين السبب والمسبب في هاتين الظاهرتين المقترنتين، فهل التطور الاقتصادي هو سبب ظهور التطور الاجتماعي، أم العكس هو الصحيح؟
ظاهرتا الحياة والموت اللتان تتكرران على الدوام من غير انقطاع، ففي الوقت الذي يموت فيه بعض الناس؛ يحيا غيرهم ورغم هذا الإقتران الزماني فليس هناك من يزعم ان بين الظاهرتين علاقة لزومية أو سببية"
وكلام يحيى الانتقادى هنا صحيح وتحدث عن معنى الصدفة لا تتكرر أكثرياً ودائمياً فى ذلك المنطق فقال :
"هكذا يمكن أن نعود إلى بحث المبدأ الأرسطي، فماذا يعني هذا المنطق بقوله: ان الصدفة لا تتكرر أكثرياً ودائمياً؟ فهو يعتبر الصدفة أو الإتفاق إقتران ظاهرتين معاً بغير لزوم تبعاً لبعض العلل العارضة فمثلاً قد يقترن وقت زواج أحد الاشخاص بموت اخر، وقد يقترن سقوط المطر مع هبوب الرياح، كما قد يقترن حدوث زلزلة مع الإصابة بمرض الطاعون، وغير ذلك من الإقترانات التي لا لزوم بينها مطلقاً أي ليس يلزم من زواج أحد الأشخاص موت الآخر، ولا يلزم من سقوط المطر هبوب الرياح،
رضا البطاوى غير متصل   الرد مع إقتباس