عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-10-2010, 05:59 PM   #5
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
القصيدة التي بين يدينا قصيدة لم أشاهد مثلها كثيرًا من القصائد ، فهي رغم ما قد يتراءى للقارئ من أول وهلة أنها غير محددة الموضوع إلا أنها تتشعب فيه تشعبًا مربوطًا بخيط رفيع هذا الخيط هو الذكرى ، التي تجمع كل هذه الأشياء المختلفة .
تبدأ القصيدة بنوع من التمحور على الذات وإغراق القارئ في شيء يشابه الثرثرة التي يقصد الشاعر منها البوح بشيء في داخله ، هذه الثرثرة أسميها كذلك لأنها ليست تهم القارئ في شيء لو أنها انتهت بهذه الطريقة ، لكن الشاعر يحاول الالتفاف حتى يصل من خلالها إلى نسج أول خيوط القضية التي يتحاور بشأنها .
نجد في هذين البيتين ما يشبه التعمية لغرض ما في نفس الشاعر :
بالأمس كان لي أنس سقيت به
أطلال أمسي إلى أن أخصب الظلل.
وكان المد متصلا تسعى به غايتان
الصدق في القول و الإخلاص في العمل. (خطأ نحوي والأصح الإخلاص والعمل ) ويكون الإخلاص والعمل معنى واحدًا بجوار الصدق ،لكن الشاعر لم ينتبه إلى ذلك
وهذا الأنس هو المنهج ربما الذي يرتضيه الشاعر والذي أضاف إلى الأمس ما جعله خصيبًا إنها المبادئ والأفكار والأيديولجية ربما ..

ونصل بعد ذلك إلى نهاية تأخذ مسار الحكمة :
فعدت من حيث لا أدري تساورني
مشاعر ملؤها الإشفاق و الوجل.
كذلك هو الفلك الدوار لا أحــد
في الكون يوقف ما يقضي به الأجل.
فلا السعادة في الدنيا بدائمــة
ولا التعاسة و الأهوال تتصل.
ماذا حدث لكي يعود الشاعر آسفًا واجلاً ؟ وما هذه المقالب التي عاشها الشاعر ؟ إنه يمهد لجماعة من الأصدقاء الافتراضيين ليسقط عليهم سمات جماعة أخرى من (متخذي القرار)
**********

وبالثرثرة العربية يذهب الشاعر موغلاً في التعمية على قارئه واستجداء اهتمامه بالتحول إلى الكلام عن الشعر على اعتبار أن الإنسان العربي يُرمز له بأنه الإنسان البدائي الذي يستهويه الشعر ومجالس الطرب ، ومن خلال هذا الموضوع يبني الشاعر أول الجسور نحو الموضوع الذي يريد الحديث عنه :

الشعر خصم عنيد ضد من حملوا
ظلما و روح و ريحان لمن عدلوا.
فقد يفقد الشاعر التواق قيمتـــه

إن طأطأ الرأس أو زلت به الجمل.
فمنذ ذاك المدى أصبحت مرتحلا

لكن قلبي به مقيم ليس يرتحل.
فالبيت الأول يقرر حقيقة عادية لا تحتاج إلى من يعيدها إلا أن الشاعر يذكرها في معرض التذكير بما يراه قد أصبح في مخلفات الماضي ، الشعر ،الكلمة ، الحرية هما الغاية التي ينشدها الشاعر
ويقع البيت الأول في منطقة متعددة التأويلات ، فربما يحتمل السخرية -على لسان السادة - بمن ينحرف بشعره عن نطاق ما هو محدد له ، كما أنه يقع في منطقة يقول الشاعر فيها ما يريد بعفوية معرضًا بالعديد من الشعراء والمثقفين ممن (طأطأ الرأس أو زلت به الجمَلُ)، ومن هنا تتضح الصورة أكثر فأكثر :
فضربة السيف قد تـُنسَى إذا إلتأمت
لكنما الشعر مضروب به المثل.
هي ضربة سيف إذًا وجاء لفظ الشعر مضروب به المثل ليكون ثمة علاقة جدلية بينهما
يصل بها الشاعر شيئًا فشيئًا إلى غايته المنشودة .

وتبدأ مرحلة إذابة الجليد بهذه الشطرة الهامة والمفصلية في القصيدة :"فلساننا العربي اليوم في خطــر" هل هو اللسان الذي ينطق أم هو الهوية والثقافة ...إلخ ؟ ويبدأ بعدها باستخدام وتطويع عناصر النحو (النصب ، الجر ، الرفع ) كمرادفات للأدبيات السياسية لكن باختلاف في كيفية توظيفها ، ووجه تطويع هذه الكلمات لا يحتاج إلى تأويل أو شرح .
حروف جر بمن فيها معطّـلــة
و العنكبوت عليها حارس ثمل.
إن الذين تولوا أمر مرابعنا
و إستخدمونا كما تستخدم الإبل.
سيعلمون غدا أن للعيس قوة من قوة الله عزم ليس ينخدل.
بهذه التدرجية العجيبة يصل الشاعر بسهولة ودون أن تشعر به لبوابة الحصن ، من خلال إعادة صياغة مفهوم العنكبوت والجر وحروفه ، فالحروف هنا رمز لعجلة التنمية -ربما- ومن فيها رمز للإنسان العربي ، إلا أن الصراحة تبلغ أوجها عندما يقول (تولوا أمر مربعنا ، استخدمونا).
وهذا الرجوع بالشخصية العربية إلى أقدم أشكالها العيس وهو( لفظ أتى في موقعه بعبقرية )يبتغي الشاعر من ورائه تقزيز القارئ من الصورة المعيشة والتي لم تتجاوز خطوط الحضارة الأولى. وهي صورة الجمال ،كان لفظ العيس مشعرًا بأصالة قوية تربط الصلة بالماضي وتفصله تمام الفصل عن الحاضر ، كما كان بناء الأبيات الذي يخلو من وصف أية منجز حضاري مساعدًا على الإشعار بجو الانغلاق والتخلف غير العادييَن.
بعد ذلك يتكئ الشاعر على العنصر الزماني (أربعة عقود) ليعبر من خلاله عن هذا الصمود المتمسّك به من جانب الإنسان العربي وربما هو يعبر عن واقع إقليمي لدولة كاليمن مثلاً أو العراق أو غيرها من الدول التي تناوشها الصراعات والحروب ، كما أن احتمالية انسحاب المعنى على الواقع والأمل وتجدد تيار الصحوة الإسلامية رغم ما تقوم به معاول الحرب على الإسلام ورادة بشدة .
بعد تأدية الشاعر مهمته بذكاء ونجاح ، فإنه يعود أدراج الماضي وينكفئ على فكرة الأهل والعشيرة والمجتمع الأولي ليرسل من خلالها سلامًا لكل المناضلين ، والأحرار الذين رفعوا لواء الحرية وكان ولاؤهم لشعوبهم أقوى من كل شي آخر ، وقد تنسحب على زملاء الحياة ممن تزاملوا وتصاحبوا في رحلة المبادئ والأفكار والقيم ، وليعد إلى أشجانه الأُوَل ِ بعد أن رأى تباشير الأمل الذي زرعه وقد تحقق .
القصيدة حُبلى بالاحتمالات والغايات ، وتسير -بشكل غريب- في منطقة تعدد التأويلات ، فلا يتبين فيها القارئ مذهبًا أو جنسًا أو شيئًا من ذلك للشاعر وإن كانت كلماته مفهومة إلا أن ما وراءها ظل خفيًا دون إبهام أو استغلاق ، ويبقى المعنى كما يُقال في باطن الشاعر الذي تمكن من إرسال رسالته المخبأة في ثنايا تزاحم وتعدد المشاهد والأفكار ، ليغطي على الفكرة التي تكون كالنجمة وسط غيوم ماطرة ، تُجلي شيئًا ما ، تخبو .
أسلوب رائع أحييك عليه أخي العزيز ، ومثل هذه القصائد قد تعد مثار اختلاف واقتتال النقاد للانفصامية التامة بين ظاهرها وباطنها ، وهكذا المبدع يرمي شرارة ، ويتبخر .

وفقك الله ودمت مبدعًا
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس