عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 05-03-2004, 07:14 AM   #145
الوافـــــي
عضو شرف
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2003
الإقامة: saudia
المشاركات: 30,397
إرسال رسالة عبر MSN إلى الوافـــــي
إفتراضي

جدد حياتك

كثيراً ما يحب الإنسان أن يبدأ صفحة جديدة في حياته، ولكنه يقرن هذه البداية المرغوبة بموعد مع الأقدار المجهولة كتحسن في حالته أو موسم معين أو بداية عام أو شهر جديد مثلاً..!

وهذا وهم.. فإن تجدد الحياة ينبع قبل كل شيء من داخل النفس، والرجل المقبل على الدنيا بعزيمة وصبر لا تخضعه الظروف المحيطة به مهما ساءت ولا تصرفه وفق هواها، بل هو يستفيد منها، ويحتفظ بخصائصه أمامها...

ثم إن كل تأخير لإنفاذ منهج تجدّد به حياتك، وتصلح به أعمالك لا يعني إلا إطالة الفترة الكآبية التي تبغي الخلاص منها، وبقاؤك مهزوماً أمام نوازع الهوى والتفريط، وما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، وأن يرسل نظرات ناقدة في جوانبها ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات قصيرة المدى والطويلة المدى ليتخلص من هذه الهنّات التي تزري به.

إن تجديد الحياة لا يعني إدخال بعض الأعمال الصالحة أو النيات الحسنة وسط جملة ضخمة من العادات الذميمة والأخلاق السيئة؛ فهذا الخلط لا ينشئ به المرء مستقبلاً حميداً ولا مسلكاً مجيداً؛ فالأشرار قد تمر بضمائرهم فترات صحو قليل، ثم تعود بعد ذلك إلى سباتها.

عش في حدود يومك

من أخطاء الإنسان أن ينوء في حاضره بأعباء مستقبله الطويل، والمرء حين يتأمل ينطلق تفكيره في خط لا نهاية له، وما أسرع الوساوس والأوهام إلى اعتراض هذا التفكير المرسل، ثم إلى تحويله إلى هموم جاثمة وهواجس مقبضة...

والعيش في حدود اليوم يتّسق مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه.. فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" (رواه الترمذي).

إن الأمان والعافية وكفاية يوم واحد تتيح للعقل النيّر أن يفكر في هدوء واستقامة تفكيراً قد يغيّر به مجرى التاريخ كله، بله حياة فرد واحد...!

على أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل، أو ترك الإعداد له؛ فإن اهتمام المرء بغده وتفكيره فيه، فيه حصافة وعقل، وهناك فارق بين الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به.. بين الاستعداد له والاستغراق فيه، بين التيقظ من استغلال اليوم الحاضر والتوجس المربك المحير مما قد يأتي به الغد...

ويرد الشاعر على هذه التوجسات بقوله:

سهرت أعين ونامت عيون *** في شئون تكون أو لا تكـون
إن ربًّا كفاك بالأمس ما كان *** سيكفيك في غدٍ ما يكــون

الثبات والأناة والاحتمال

إذا داهمتك شدة تخاف منها على كيانك كله.. فما عساك تصنع؟

يقول كارنيجي:

1ـ سل نفسك ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي؟

2ـ ثم هيِّئ نفسك لقبول أسوأ الاحتمالات؟

3ـ ثم أسرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟!

والناس –إلا القليل منهم- من خوف الفقر في فقر.. ومن خوف الذل في ذل...

إن الإنسان يتخوف فقدان ما ألِف، أو وقوع ما يفدح حمله، وكلا الأمرين بعد حدوثه يُستقبل دون عناء جسيم..؟!

أعرف رجلاً قُطعت قدمه في جراحة أجريت له، فذهبت لأواسيه، وكان عاقلاً عالماً، وعزمت أن أقول له: "إن الأمة لا تنتظر منك أن تكون عدَّاءً ماهراً ولا مصارعاً غالباً، إنما تنتظر منك الرأي السديد والفكر النيّر، وقد بقي هذا عندك ولله الحمد".

وعندما عدته قال لي: "الحمد لله.. لقد صحبتني رجلي هذه عشرات السنين صحبة حسنة.. وفي سلامة الدين ما يرضي الفؤاد"!

والتحسر على الماضي الفاشل والبكاء المجهد على ما وقع بما فيه من آلام وهزائم هو –في نظر الإسلام- بعض مظاهر الكفر بالله والسخط على قدره؟!

هموم وسموم

الخبراء في حياة الغرب يشكون من حرارة الصراع الدائر في أرجائه للحصول على المال والمكاثرة به؛ فالأفراد والجماعات منطلقون في سباق رهيب لإحراز أكبر حظ مستطاع من حطام الدنيا، وقواهم البدنية والنفسية تدور كالآلة الدائبة وراء هذه الغاية.

ويقول الدكتور ألفاريز: "اتضح أن 4 من كل 5 مرضى ليس لعلتهم أساس عضوي البتة، بل مرضهم ناشئ عن الخوف والقلق والبغضاء والأثرة المستحكمة، وعجز الشخص عن الملاءمة بين نفسه والحياة"!

في مقابل ذلك يجب أن نذكر ببعض أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذم هذا التكالب والترهيب من عقباه، فقال:

ـ "من جعل الهم همًّا واحداً كفاه الله دنياه، ومن تشعّبته الهموم لم يبالِ الله في أي أدوية الدنيا هلك" (رواه الحاكم).

- وقال عليه الصلاة والسلام: "من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدر له" (رواه الترمذي).

وهذه الأحاديث تهدف إلى تهذيب النفوس في سعيها وعملها وطلبها للرزق، ولا تعني بشكل من الأشكال إبطال أعمال الدنيا..

فالمال نطلبه لكي ننفقه لا لنختزنه، وإذا أحببناه فمن أجل أن نبذله فيما يحقق مصالحنا ويصون حياتنا، وأفضل الناس من يأخذه بسماحة وشرف بدون تخاطف أو حسد، وإذا تحوّل عنهم لم يشيعوه بحسرة أو يرسلوا وراءه العبرات..

ولذلك فواجب المؤمن التشبث بالعناية الإلهية في مواجهة كل ما يحل به من قلق واضطراب؛ فإن الاستسلام لتيار الكآبة بداية انهيار شامل في الإرادة يطبع الأعمال كلها بالعجز والشلل.

ولذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلّم أصحابه بعض الأدعية ليسهّل الله أمورهم ويقضي حوائجهم، وبعض الناس يتصور أن الدعاء موقف سلبي من الحياة، أليس عرض حاجات وانتظار إجابة؟!

ويوم يكون الدعاء كذلك لا يعدو ترديد أماني وارتقاب فرج من المجهول ولا وزن له عند الله بل يحب أن يكون مقروناً بالعمل والأخذ بالأسباب..

كيف نزيل أسباب القلق؟

لا أعرف مظلوماً تواطأ الناس على هضمه وزهدوا في إنصافه كالحقيقة.. ما أقل عارفيها، وما أقل في أولئك العارفين من يقدّرها ويعيش لها، إن الأوهام والظنون هي التي تمرح في جنبات الأرض، وتغدو وتروح بين الألوف المؤلفة من الناس، وجدير بالإنسان في عالم استوحش فيه الحق على هذا النحو أن يجتهد في تحريه، وأن يلتزم الأخذ به، وأن يرجع إليه كلما أبعدته التيارات عنه؛ ولذلك يدعو الإنسان ربه في كل صلاة أن يهديه الصراط المستقيم الذي يلتمس به الصواب بين طرق الضلال ودعوات الباطل..

يقول كارنيجي: الخطوات الثلاث التي يجب اتخاذها لتحليل مشكلة ما والقضاء عليها هي:

1ـ استخلاص الحقائق.

2ـ تحليلها.

3ـ اتخاذ قرار حاسم والعمل بمقتضاه.

وجمع الحقائق ليس يسيراً كما يقول كارنيجي "إننا قلّما نُعنى بالحقائق، وإذا حدث أن حاول أحدنا استخلاص الحقائق فإنه يتصيد منها ما يعضد الفكرة الراسخة في ذهنه، ولا يبالي بما ينقضها؛ أي أنه يسعى إلى الحقائق التي تسوّغ عمله، وتتسق مع أمانيه، وتتفق مع الحلول السطحية التي يرتجلها".. فما العلاج؟

العلاج هو أن نفصل بين عاطفتنا وتفكيرنا، وأن نستخلص الحقائق المجردة بطريقة محايدة. والخطوة الثانية بعد جمع الحقائق استشعار السكينة التامة في تلقيها، وضبط النفس أمام ما يظهر محيراً أو مروعاً منها..

وقد يجد المرء نفسه أمام عدة حلول للمشكلة؛ فيجد أن أحلاها مر، وقد يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، وقد يدور حول نفسه ولا يرى طريقاً، أو يرى الطريق فادح التضحية، ومثل هذه الأفكار تتكاثر وتتراكم مع ضعف الثقة بالله وبالنفس. أما المؤمن فهو يختار أقرب الحلول إلى السكينة والرشد، ثم يُقدِم ولا يبالي بما يحدث بعد ذلك، ولسان حاله يقول: "قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ".

والخطوة الأخيرة هي التصرف بقوة وحزم؛ فكثير من الناس لا يعوزهم الرأي الصائب؛ فلهم من الفطنة ما يكشف أمامهم خوافي الأمور، يبدو أنهم لا يستفيدون شيئاً من هذه الفطنة؛ لأنهم محرومون من قوة الإقدام، فيبقون في أماكنهم محصورين بين مشاعر الحيرة والارتباك، وقد كره العقلاء هذا الضرب من الخور والإحجام، فقال شاعرهم:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة **** فإن فساد الرأي أن تترددا

إن مرحلة المشورة في أمر ما لا يجوز أن تستمر أبداً بل هي حلقة توصل إلى ما بعدها من عمل واجب، فإذا تقرر العمل فلنمضِ في إتمامه قدماً، ولنقهر علل القعود والخوف، ولنستعن بالله حتى نفرغ منه!

جزء من كتاب "جدد حياتك" للشيخ محمد الغزالي رحمه الله، بتصرف.

تحياتي

__________________



للتواصل ( alwafi248@hotmail.com )
{ موضوعات أدرجها الوافـــــي}


الوافـــــي غير متصل   الرد مع إقتباس