عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-05-2009, 01:06 PM   #8
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

آليات الاحتكام للأعراف العشائرية

هناك في داخل كل إنسان، مخزون ثقافي تراثي يظهر بشكل فوري لتقييم ما يجري حوله، حتى لو بدا ذلك الإنسان أنه قد تخلى عن ذلك المخزون بفعل تعليمه العالي أو بفعل أسفاره واختلاطه مع مجتمعات مدنية راقية.

فكثيرا ما نصدف بعض الأشخاص الذين أمضوا عقدين أو أكثر من حياتهم في الاغتراب بإحدى الدول الغربية. فما أن يعود ذلك المغترب الى مجتمعه الريفي حتى تنهض تفاصيل ذلك المخزون في أدق التصرفات. فإنه سيخلع حذاءه عند الباب ويتوجه منحنيا لتقبيل يدي أبيه وأمه، ويتخلى عن استخدام الشوكة والسكين في تناول طعامه. كل هذا يتم دون إعادة تمرين، رغم طول المدة التي لم يمارس بها ذلك المغترب تلك الطقوس.

وإن صدف أن ذلك المغترب، حضر جلسة عائلية لمعالجة مشكلة معينة كالتحرش بإحدى قريباته، فإنه لن يستعين برصيده المعرفي الذي حصله من الدنمرك أو الولايات المتحدة، بل سينخرط وعلى الفور مع جماعته ويناقش الموضوع بطرح أسئلة: من أي عشيرة ذلك المعتدي؟ وبمن دخلت عشيرته؟ وكم عدد أفراد تلك العشيرة؟ إنها أسئلة تعبوية تشبه أسئلة قادة أركان يخططون للحرب.

الدَخَالَة

يقوم الطرف المتهم بالتوجه لعشيرة لها هيبتها في المجتمع المحلي بعدد رجالها، وقوتها الاجتماعية وماضيها، طالبا منها الحماية والقيام بإجراءات الصلح بين العشيرتين المتخاصمتين. وتسمى تلك العملية بالدخالة، ويكون هذا الإجراء بالتفاهم مع الحاكم الإداري للمنطقة، الذي بدوره يبلغ الطرف المتضرر باسم العشيرة (الثالثة: المدخول بها).

وقد ترفض العشيرة المتضررة، أن تكون تلك العشيرة وسيطا بين المتخاصمين، ولكن ليس لها الحق بذلك قبل إعطاء العطوة الأمنية (ثلاثة أيام وثلث). فإن رفضت فإن الحاكم الإداري سيوعز لأجهزة الأمن بإيداع وجهاء تلك العشيرة بالسجن حتى يقبلوا بالعطوة الأمنية.

الجاهة

عندما تقبل العشيرة المتضررة بالعشيرة المدخول بها، وقبل انتهاء مدة الثلاثة أيام وثلث، تدعو العشيرة وجهاء المجتمع المحلي للتجمع في ديوانها للتباحث بالمسألة، وإن كانت القضية بها قتل عمد أو انتهاك عرض، فإن الجاهة ستضم وجهاء من مناطق مختلفة.

ويلبي المدعوون الدعوة بأقصى سرعة، فالمناسبة لهم تدلل على مكانتهم الاجتماعية، فسيتباهون أمام أسرهم أنهم كانوا في مهمة خطيرة! ويتباهوا أمام بعضهم البعض بسؤال غير بريء: (ما شفتك بجاهة العطوة؟) هو يريد أن يقول لمن تحدث معه أنه أرفع مكانة منه إذ تفقده المجتمع ودعاه في حين لم يدع صاحبه.

كما أن تلك المناسبات بكثرتها، ستكون بما يشبه القانون غير المكتوب، فمن يشارك بها سيستعمل تفاصيل تلك الأحداث في مناقشة ما سيجري بعدها من قضايا مشابهة وتسمى المثيلات.

فنجال القهوة

بعد وصول الجاهة الى ديوان العشيرة المتضررة، فإنهم سيرحبون بهم في الباب، مع فسح المجال لبعض الجهلة من الشباب أن يظهروا بعض ملامح الغضب والعصبية، كأن يصيح أحدهم قائلا: ( يا ويلي أتوا ليدفعوا ثمن دم فلان) ويشتم الظروف والبلاد والعادات، لكي يسمع الرجال الذين يدخلون الديوان تلك الكلمات، فيخرج أحد العقلاء ليزجر ذلك الشاب بمشهد تمثيلي قد يكون مؤثرا في بعض الأحيان.

يقوم أحد أهل المغدور، بصب فنجال القهوة السادة، ويتلفت يسارا ويمينا كمن يبحث عن الشخص الذي سيتناول منه الفنجال، وعندها يقول: (شومتكم بيناتكم: أي لتقوموا أنتم باختيار من يمثلكم).

أحيانا، يكون الوجيه الأول قد تم الاتفاق عليه قبل تحرك الجاهة، فتتصاعد الأصوات (ضع الفنجال أمام الشيخ فلان). ولكن عندما لا يكون هناك اتفاق على ذلك، يطلب ممن صب القهوة أن يضع الفنجال على منضدة بالوسط.

خطاب الجاهة

إما أن يقف الشيخ الذي تم الاتفاق عليه، أو يقوم إمام مسجد معروف بنزاهته وعدله، ويلقي كلمة يذكر فيها آيات من القرآن الكريم عن العفو والصلح وإصلاح ذات البين، ويستعين ببعض الأحاديث الشريفة ثم يعرج على بعض الأمثلة المشابهة.

وينهي كلامه، بأن تلك الجاهة أتت الى ديوانكم العامر وأنتم العشيرة المعروفة بكرمكم وشجاعتكم وورع أهلكم وحبكم للوطن وحبكم لإشاعة الأمن والسلام الخ. وهي طامعة أن لا تردوها خائبة.

خطاب أهل المتضرر

يقف أحد الفصحاء من أهل المتضرر، ويمتدح الإسلام والوطن والحاكم ويمتدح الجاهة الكريمة... ثم يضع (ولكن) ويكمل خطابه لتصوير القضية أو الجريمة، بأنها أبشع جريمة حدثت في المجتمع، ثم يصور المعاناة الت يلاقيها العقلاء في لجم جموح الشباب المطالبين بالثأر، ولا ينسى قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).

تتصاعد الأصوات الغاضبة في الخارج من جديد، وتتداخل أصوات الحضور، ( صلوا على النبي) ( توكلوا على الله)

أحيانا، يطلب أهل المجني عليه، مالا ( فراش عطوة) ويبالغون في كميته، تعبيرا عن رفضهم لمبدأ الصلح، وأحيانا يطلبوا ترحيل كل عشيرة الجاني لمسافة 50 كم. وأحيانا يتم الاختلاف على تسمية العطوة ( أي صك تهدئة الأمور لفترة يتفق عليها) هل هي عطوة إقرار واعتراف بالذنب، أم عطوة (حق) أي أن الجاني وأهله لم يعترفوا بالذنب بل أخذوا عطوة حق حتى ينجلي الجاني الفعلي.

سنمر على ذلك



__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس