عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-05-2006, 10:44 AM   #27
محمد العاني
شاعر متقاعد
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
الإقامة: إحدى أراضي الإسلام المحتلة
المشاركات: 1,538
إفتراضي اليوم التالي..

أطفال بغداد الحزينة
في الشوارع يصرخون
جيش التتار
يدق أبواب المدينة كالوباء
ويزحف الطاعون
أحفاد "هولاكو"
على جثث الصغار يزمجرون


لا أذكر شيئاً عن تلك الليلة..!!
كانت ليلةً طويلةً جداً جداً..و قد أفلحت القنوات الفضائية و خصوصاً القنوات العربية في إظهار العراقيين بصورة السرّاق الهمجيين الذين يدمرون كل ما أمامهم. تناسى الجميع عشرين ألف مجرمٍ أطلقهم صدام حسين قبل الحرب بفترةٍ يسيرةٍ. بل لمن لا يعلم فقد قام صدام بإطلاق مرضى الإيدز أيضاً من مستشفى الحجر الصحي في منطقة الحصوة غربي بغداد.
هؤلاء المجرمون بمساعدة القنوات العربية إستطاعوا أن يُثبتوا للعالم أن العراقيين هم عبارةٌ عن مجموعة من الهمج المدمرين السرّاق. لا اريد التعرض إلى هذا الموضوع أكثر لأنني سأشير بأصابع الإتهام في كثير من الدمار إلى دولةٍ جارةٍ عربيةٍ و أخرى غير عربية.

في صباح ذلك اليوم الأليم، جائني زائراً أحد أصدقائي ممن يقطنون نفس منطقتنا. بالطبع للتنقل في بغداد في ذلك اليوم يجب أن تحمل قطعة قماش بيضاء. علامة المدنيين كما يسميها الأمريكان، و علامة الإستسلام كما أسميها. عندما رأيت صاحبي للمرة الأولى احتضنني و رحنا نبكي لفترةٍ من الزمن. إنه الإحساس بالهزيمة الذي جعلنا نبكي. ليس لأننا نحب صدام حسين أو نريد بقائه، بل لأن لا شخصاً عاقل يرضى بالإحتلال.
جلسنا أنا و صاحبي احمد دون كلامٍ لفترة، ثم أخذنا نستمع إلى الأخبار في الراديو، الأخبار لم يكُن فيها ما يسُر. أكثر خبر جذب إنتباهنا هو أن مستشفى الكندي في الرصافة تتعرض إلى السلب و النهب و المرضى فيها بأمس الحاجة إلى المساعدة. كان قد تناهى إلى مسامعي أن المستشفيين الذين لا يزالا يعملان في الكرخ هما مستشفى اليرموك و مستشفى الطفل العربي. و بعد تفكير ليس بالطويل قررنا أنا و أحمد أن نذهب إلى مستشفى اليرموك لأننا توقعنا أن هناك من يحتاج إلى المساعدة. المسافة بين العامرية و مستشفى اليرموك طويلة جداً مشياً على الأقدام، ذلك لعدم وجود السيارات في الشارع إلا ما ندر جداً.
توكلنا على الله و بدأنا بالمسير. و كلما قطعنا مسافةً مرت بنا مجموعة من القوات الأمريكية و فتّشونا بشكل مُذل. إلا أننا كنا نحتسبها عند الله لما كنا ذاهبين إليه. فما قد سمعناه في الأخبار عن خلو المستشفيات من الأطباء و الكادر الطبي و إمتلائها بالمرضى جعلنا نتحمل كلما حدث في الطريق إلى المستشفى.
في الطريق، كنا نجد السيارات المدنية المحترقة و ليس بداخلها إلا كتل فحمية لا نستطيع نَسَبها إلى جزءٍ من جسم الإنسان. اليورانيوم المنضب، نعم. اليورانيوم المنضب هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يُحرق البشر و المركبات بهذه الطريقة الوحشية. و كلما قطعنا مسافةً وجدنا بين الأحياء مساحاتٍ من التراب و قد استُخدمت كقبور لشهداء و كُتب فوقها (هنا قبر شهيد). و من كان يتوفر له العلم العراقي عند الدفن كان الدفّانون (جزاهم الله خيراً) يضعون العلم فوق القبر.
من مسافةٍ بعيدةٍ عن مستشفى اليرموك بدأنا نشم رائحة الجثث..!!
يا إلهي..بيننا و بين المستشفى أكثر من مئتي متر و الرائحة تقطع الأنفاس..!!!
منظر المستشفى من بعيد كان رهيباً. كانت بعض العربات و الأسرّة و فوقها الجثث في الشارع. و بُقع الدماء تغطّي الأرض..و واضحٌ أن الكثير من الجثث كانت لناسٍ نزفوا حتّى الموت في هذا المستشفى الفارغ. لم ندخل المستشفى بعد..لأننا في الشارع و أحسسنا أنفسنا داخل المقبرة..!!
بعض الجثث كانت متروكةً منذ فترةٍ طويلةٍ حتى أن الذباب و الحيوانات بدأت تأكل منها..!!!
لقد كان الموقف رهيباً.

أمام المستشفى على الجهة الأخرى من الشارع كان هنالك حدائق صغيرة تفصل بين البيوت و الشارع. قررنا أنا و أحمد أن نستخدم هذا الحدائق لندفن فيها الموتى. و كانت البيوت كلها خاوية أو بدتْ كذلك.
بدأنا بالحفر بأيدينا لأننا لم نملك ما نحفر به. و جائت مجموعة من القوات الأمريكية و طوقونا و فتشونا ظانّين اننا نزرع ربما لغماً أو شيئاً من هذا القبيل. و بعد التفتيش أدركوا أننا لا نشكل خطراً عليهم إنما نريد أن نستر هؤلاء الموتى.
بعد ذلك دخلنا إلى المستشفى لنأتي بملابس أطباء حتى يعتقد الأمريكان أننا نعمل في المستشفى فلا يزعجوننا مرةً أخرى. و كان المنظر في المستشفى اسوأ بكثير من خارجها. وجدنا عدداً قليلاً جداً من كادر المستشفى يحاولون بلا أدواتٍ أن يُنعشوا من كان فيه من الروح شئ.
خرجنا مرةً أخرى لنكمل الدفن..دفنا الكثير الكثير من الناس بعد أن صلينا عليهم حتى وصلنا إلى مرحلةٍ أخذت بها أجسامنا ترتجف و دموعنا تنزل دون أن نشعر.
شعرت بالخَدرِ في يدي..و كان ذلك أفضل..فلم أعد قادراً على الشعور بالناس الذين نواري أجسامهم الثرى. قررنا أن نتوقف..
لم أستطع الإستمرار..
أحسست أن جبلاً أُلقي على صدري فلم أعد أستطيع التنفس..
احتضنت أحمد و رحت أبكي بشدّةٍ..
تركنا المكان و نحن تفوح منّا رائحةُ الموت..
إلى هذا اليوم لم استطع نسيان ما حدث..و لا أظنني أستطيع..!!
كل ما حدث لم يأخذ أكثر من ساعتين أو أكثر بقليل ربما..إلا أنها بدت لي كألف سنة..
رغم أن نيسان في بغداد حار..إلا أنني أحسست بالبرد الشديد..أحسستُ أن بغداد لم تعُد مدينة..بل أصبحث ثلاجةً كبيرةً للموتى...
__________________
متى الحقائب تهوي من أيادينا
وتستدلّ على نور ليالينا؟

متى الوجوه تلاقي مَن يعانقها
ممن تبقّى سليماً من أهالينا؟

متى المصابيح تضحك في شوارعنا
ونحضر العيد عيداً في أراضينا؟

متى يغادر داء الرعب صبيتنا
ومن التناحر ربّ الكون يشفينا؟

متى الوصول فقد ضلت مراكبنا
وقد صدئنا وما بانت مراسينا؟
محمد العاني غير متصل   الرد مع إقتباس