عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 15-05-2009, 04:10 PM   #3
سيدي حرازم يطرونس
المشرف العام
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2006
الإقامة: SDF
المشاركات: 1,056
إفتراضي

خامسا : إستراتيجيات الأنظمة السياسية في مواجهة العصيان السياسي
تختلف إستراتيجية الأنظمة السياسية الحاكمة في التعامل العصيان السياسي طبقا للأجواء التي ينشأ فيها وهي غالبا استثنائية ينعدم فيها الاستقرار وترتفع فيها الحساسية السياسية، وهناك ثلاث إستراتيجيات أساسية:
الأولى: التجاهل السياسي: أي يتم تجاهل الأمر إذا لم يمتلك القطاع المقاوم تأثيرا سياسيا حقيقيا فإنه غالبا ما يتم تجاهله من قبل السلطة السياسية الحاكمة، وخاصة إذا لم تتأثر قطاعات مركزية في المجتمع بمقاومته، أو ما لم تتأثر قطاعات أخرى بالقطاعات المتمردة.
الثانية: استخدام القوة والعنف: بحيث يتم اضطهاد القطاعات المقاومة خاصة عندما تتأثر مؤسسات مركزية أو حساسة في المجتمع من جراء عمليات التمرد أو العصيان.
الثالثة: الاسترضاء والرشوة السياسية: وهنا تسعى السلطة السياسية الحاكمة للاسترضاء بأشكال متعددة منها:
- تقديم تنازلات مباشرة أو الضغط على الصفوة من رجال الأعمال والقطاع الخاص لتقديمها لقطاعات معينة من الجماهير، سواء أكانت التنازلات ملموسة أو رمزية.
- ضخ طاقات الغضب الناجمة عن العصيان في مسارات أكثر شرعية وأقل ضررا بتقديم المزيد من الإغراءات أو بعبارة أخرى احتواء القيادة في اللعبة السياسية.
- إضعاف حدة التعاطف الجماهيري مع عمليات الاحتجاج من خلال جهود الترضية السابقة، وعبر برامج يبدو أنها تحقق المطالب الأخلاقية لها، وبالتالي يتم سلب الدعم عن هذه العمليات دون تقديم تنازلات ملموسة.
وهناك ما نطلِق عليه "الإستراتيجية المزدوجة" التي تتبعها الأنظمة السياسية الحاكمة في احتواء عمليات العصيان السياسي وهي تشمل جهود الترضية والرشاوى السياسية والمكاسب الظاهرية -على النحو الذي أسلفنا- من جانب، ومن الجانب الآخر يتم عادة التبني الآمن لإجراءات تعسفية يتم من خلالها مضايقة القادة والقطاعات الأكثر تمردا أو تلك التي ترفض التنازلات من خلال تحرش السلطة السياسية الحاكمة، وبإجراءات قانونية ورسمية تتم إجراء التحقيقات وتصل إلى المحاكمات وإصدار الأحكام في إطار تغطية إعلامية ودعائية واسعة.
وهكذا تضمن الأنظمة الحاكمة أن الإجراءات التعسفية لن تجلب -غالبا- التذمر من الجمهور المتعاطف، بل إن هذه الإستراتيجية المزدوجة قد تضفي نوعا من المصداقية والتوازنية على ممارسات السلطة السياسية الحاكمة.
سادسا : احتواء واستيعاب العصيان السياسي في الأطر المؤسسية والتنظيمية
تشير الخبرات التاريخية إلى أن تحقق مفهوم "القوة" و"السيطرة" لأي نظام سياسي يكون عبر التحكم في وسائل القوة المادية والإنتاج الاقتصادي من جانب والآلة العسكرية والأداة الأمنية من جانب آخر واللذين يتركزان مع مرور الزمن في يد الطبقة الحاكمة، كما أن حماية وتوسع هذين المصدرين تتم من خلال استخدامهما في التحكم ليس فقط "بسلوك" أفراد المجتمع، بل في التأثير على "معتقداتهم"؛ الأمر الذي يطلق عليه البعض "التنظيم الأعظم" ويسميه آخرون "الثقافة"، ويشمل منظومة معقدة من "المعتقدات" و"الطقوس" التي تؤطر للناس الصحيح والخطأ، والممكن وغير الممكن، وما يترتب على هذه المعتقدات من سلوكيات "واجبة"... إلخ.
والواقع أنه تتم في الدول الرأسمالية تغطية المال والثراء كمصدر للقوة بعملية انتخابية يشارك فيها أفراد المجتمع بصورة متساوية؛ فيتم تغطية قاعدة "المال" بقاعدة "التصويت"، ومن ثمَّ يتم الحد من المشاركة الفعالة، والإلزام بخيارات محدودة، وترجيح مصالح الصفوة على مصالح الجماهير... إلخ، ومن ثم فإن الاستنتاج الطبيعي هو أن التزام الفئات بإطار العملية الانتخابية لن يتيح لهم ممارسة أي تأثير يذكر في المجتمع؛ وبالتالي فقد أضحى واضحا أن العصيان السياسي ليس عملية شغب ولكنه الخيار الوحيد أمام هؤلاء المحرومين والمبعدين عن ممارسة خيارات سياسية حقيقية، وبالتالي فإن استيعاب عمليات العصيان السياسي عبر تحويلها إلى "تنظيمات سياسية"، أو السماح بتبني مطالبها وأهدافها عبر قنوات المؤسسات السياسية القائمة في إطار مؤسسة الدولة؛ الأمر الذي يطلق عليه "الوظيفة الاستيعابية أو التطويرية للنظام السياسي" هو أمر غير ناجح عمليا، ويتم من خلاله القضاء على إمكانيات التغيير الحقيقية، أو الاستجابة الفعلية للمطالب التي تتبناها حركات العصيان السياسي...
فالاعتقاد بأن تحويل الحركة الشعبية المعبرة عن العصيان السياسي إلى "منظمة سياسية" سيجبر الصفوة السياسية والاقتصادية على تقديم تنازلات سياسية يتم من خلالها توسيع المنظمة وتحقيق مطالبها؛ هذا الأمر وإن حدث تاريخيا فقد كان تحت تأثير عاملين:
الأول: جاذبية اللحظة التاريخية؛ حيث يقود الاستياء والسخط عددا كبيرا من الناس للتمرد والعصيان السياسي؛ الأمر الذي يبدو معه أن هناك الكثير مما يمكن القيام به في حالة إنشاء منظمة كبيرة ودعم عملية استمرارها.
الثاني: تقدم الصفوة -أحيانا- في مواجهة العصيان السياسي بعض التنازلات التي يبدو أنها لم تكن ممكنة من قبل، فيعتقد أن الأمر سيزداد ويتدعم في حالة إنشاء منظمات سياسية.
ولكن ذلك يتضمن خللا حقيقيا؛ إذ إن الصفوة لن تقبل بتقديم سلسلة من التنازلات تمس جوهر حكمها، أو تسمح باستخدامها في تحد حقيقي لمواجهتها، كما أن القيادات بإنشاء هذه المنظمات السياسية تنقل الجهود من "الشارع" إلى "قاعات الاجتماعات"، وتصبح هذه المنظمات رأس جسر لجهود الصفوة السياسية في دفع العصيان السياسي في القنوات السياسية التقليدية والتي لن تحقق أو تستجيب للمطالب الحقيقية، بينما تظل هذه الجماعات والمنظمات السياسية تعتقد -وبالأصح تعيش وهمًّا- أنها تسلك "الطريق الطويل والصعب" ولكنه المضمون نحو تحقيق أهدافها.
سابعا : انتهاء حركات العصيان السياسي وموت مقاومة الطغيان:
بعد أن تتأكد الصفوات والسلطات الحاكمة من درجة ومستوى فعالية المنظمات السياسية التي قامت في سياق عمليات عصيان سياسي تعبيرا عن مطالب حقيقية – لكنها فقدت بتحويلها التنظيمي هذا الزخم تسعى إلى جذبها إلى بنية الأنظمة السياسية لمعرفة آرائها، ولكي تعرض همومها وشكواها عبر المؤسسات والقنوات الرسمية للدولة، وهذه الاستجابة الرمزية ليست للمنظمة كـ"تنظيم" ولكن للبقية الباقية من قوى العصيان السياسي داخلها – وهذه بدورها لا تدوم طويلا كأي مظهر من مظاهر الرأي العام المتقلبة والزئبقية، وهكذا فإن أكثر التنظيمات التي نشأت تعبيرا عن مطالب حقيقية ومن رحم حركة شعبية تتلاشى كوجود حقيقي...
ومع ذلك تستمر هذه المنظمات كـ"هياكل" و"أبنية" فارغة رهينة بأمرين:
الأول: تصبح ذات فائدة ومصدر وجاهة ومكانة رمزية، وغالبا ما تشكل وسيلة ومصدر معيشة للذين يتحكمون في مواردها ويعتمدون عليها من المجموعات والأفراد الذين يدعون تمثيل المنظمة أو الجماهير".
الثاني: تصبح أكثر خضوعا لمن تعتمد عليهم في مواردها المختلفة، ويبقى توازنها الهش رهينا بتوازن مجموعات "الشلل" و"الزبائن" الذين تؤول أمورها إليهم، بالإضافة إلى سبب جوهري مهم وهو أن استمرارها بهذه الوضعية إنما يكون بسبب هجرها للسياسات المعارضة الفعلية والجذرية، وقبولها بلعب "أدوار" محددة في إطار "لعبة" السياسات الرمزية.

انتهى
__________________
"Noble sois de la montaña no lo pongais en olvido"
سيدي حرازم يطرونس غير متصل   الرد مع إقتباس