عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 09-06-2013, 02:40 PM   #8
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الكل أكبر من مجموع أجزائه



(1)

لو فرضنا أن بلدةً عدد سكانها مائة ألف نسمة، وكانوا على درجة كبيرة من الشبه والتطابق في سلوكهم ومسكنهم ومأكلهم وملبسهم وثقافتهم، وكان كلٌ منهم يحس بالاكتفاء الذاتي وعدم الحاجة الى الآخرين، فيفضل عدم الاحتكاك مع الآخرين ولا الاستعانة بهم لتمشية أمور حياته، فإننا نكون بمعنى آخر أمام بلدةٍ عدد سكانها فرد واحد مكرر مائة ألف مرة.

ولو أكملنا الافتراض، بأن يبرز من تلك البلدة مائة شخص يقسمون الأدوار فيما بينهم ويخططون ليلاً ونهاراً لاستثمار الوسط الذي يعيشون فيه، فإن قوة هذه المائة ستكون أكثر من أي مائةٍ أخرى، بل وقد تتغلب على سكان البلدة بكاملهم في تحقيق أهداف تلك الزمرة المكونة من مائة شخص.

هكذا تفعل النُظم الحاكمة في بلداننا وفي معظم بلدان العالم الثالث، تستفيد من تحييد المواطنين بوصفهم أفراد، في حين تنفرد هي في سن القوانين وإنشاء الإدارات التي تزعم فيها أنها تخدم الجميع، في حين تثبت هي في تلك الإدارات أركان حكمها، وتختار بطرق ملتوية من يدير أبناء المجتمعات بأذرع مختلفة كقوى الأمن وجمع الضرائب وغيرها.

في المجتمعات البدائية، رغم أن جدلية الحياة لا تموت، ولكن يكون الاستقرار والهدوء والسكون هي سمات المجتمع. ولكن عندما تكبر المدن فيكون أمامها طريقان إما أن تتحول الى مدينة منتجة مليئة بالحياة والأدب والفن والثقافة والاختراع والازدهار، بحيث تصبح قبلة للزوار والتجار ورجال الأعمال من مختلف أنحاء العالم، فيزيد بذلك تقدمها وازدهارها، وإما أن تتحول الى غابة كبيرة كثيرة المتاهات وبؤر الافتراس. كيف تصبح المدينة أمام أحد الخيارين؟


(2)


يستعمل علماء الاجتماع السياسي مصطلح الاندماج الاجتماعي والثقافي ليدخلوا منه الى تحليل حالة مجتمع الى أين وصل، ويطرحوا عنوان المشكلة لكي يعترف المطلعون أن هناك مشكلة حدودها كذا وكذا وأسبابها كذا وكذا، وطرق علاجها كذا وكذا، وقد تكون المشكلة في بلادنا أكثر تعقيداً، إذ أن هناك جيوشاً لا تعترف أن لدينا بالأساس مشكلة، وإن اعترف قسمٌ منهم بها فإنهم لا يتفقون على أن أسبابها هي التي يقولها الغير، وعندما يختلفوا في هذه النقطة، فإنهم بالتأكيد سيختلفون على مناهج الحلول ( لنُسقط ذلك على ما هو جارٍ في مصر وتونس وليبيا وسوريا).

يمكن أن نتبين ثلاثة أنواع من الاندماج: الأول ما بين القواعد الاجتماعية، والثاني ما بين القواعد والتصرفات الخاصة بالأشخاص، والثالث ما بين الأشخاص أنفسهم*1

يسمى النوع الأول من الاندماج بالاندماج الثقافي، وقد قسمه (رالف لنتون) الى ثلاثة أقسام: شمولية وتخصصية وبديلة. النموذج الشمولي يشمل تلك الأفكار والعادات والاستجابات العاطفية المشروطة التي يشترك فيها جميع أعضاء المجتمع البالغين العاقلين. وهذه الخاصية تختلف من مجتمع لآخر، وهي تتعلق باللغة والأزياء والنماذج القبلية الخ.

أما النموذج التخصصي فيحتوي على العناصر الثقافية التي يشترك فيها أعضاء جماعات معينة من الأفراد تحظى باعتراف المجتمع، ولكن لا يشترك فيها كل أعضاء المجتمع، كالمهن والطوائف الدينية والعرقية الخ.

أما النموذج الثالث فيحتوي عناصر تتميز فيها مجموعات فنية نحت أدب فكر سياسي الخ.*2

وحتى يكون المجتمع قوياً وصاعداً، يفترض أن يكون هناك تناغمٌ بين وحداته الجزئية ليصبح الكل أكبر من أجزائه، أي يكون في حالة تتلاقح فيها كل القوى في أداءٍ متعاضد لتصنع تقدم البلاد.


(3)



الاستعداد للنهوض يستلزم تنسيقاً دءوباً بين القوى الفاعلة في التغيير، فقبل أن تعلن بدءها لمشوارها في التغيير، عليها أن تتفحص القوى الأخرى الراغبة في التغيير، وتضع كلها مجتمعة خريطة التغيير ومساراتها، بشكل مبكر وتتفق على نقاط السير وما بعد الوصول، لا أن تنفرد قوة في حصاد ثمرة التغيير، وتنقطع أنفاسها عند الوصول، فتستبعد من شاركها عملية التغيير، وتبدأ بالبحث عن معاونين جدد ليجعلوها تنفرد بالسيادة!

في جنوب إفريقيا و الهند حصل تحشيد وعمل جبهوي قبل عمليات التغيير هناك فالتقى الشيوعي مع الليبرالي مع المتدين (مسلم، مسيحي، بوذي، سيخ الخ) مع البرجوازي، مع غيرهم واستبعدوا الصيغ المستوردة، فهذا مانديلا يقول في مذكراته رغم أننا تحالفنا مع الشيوعيين وكانوا أصدقائنا لكننا رفضنا منذ الانطلاقة أن نصنف صراعنا مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا على أنه صراع طبقي بين كادحين وملاك، إنه صراع إفريقي مع مستعمر، إنه صراع له لون خاص لا نستطيع وضعه في قالب مستورد*3

وفي بلادنا لا نكتفي بذكر محاسن البعض من صور في التاريخ القديم لنجعلها محفزات أخلاقية ومستفزات لإثارة الهمم الطيبة لنقتدي بها ونكتفي بهذا الجهد، على أساس أننا بلغنا ما يجب أن نبلغه والباقي على الشعب! وتكثر هذه الأيام المواعظ والنصائح والحديث عن المصلحة العامة والكل يتشابه فيها حكاماً ومعارضة وأبواق الحكام والمعارضة، فلا يهتم جائع بما يقوله حاكم على شاشات التلفزيون وخدوده متوردة من العافية بما يقول، ولا يهتم من يعاني يومياً من أزمة المواصلات بما سيقوله محاضر أوقف سيارته الفاخرة أمام قاعة المحاضرات الخ.

ويذكر الطرطوشي قصة ابن السماك الذي طلب منه الرشيد أن يعظه وكان بيد هارون الرشيد شربة ماء، فقال السماك: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك? قال: نعم. قال: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك? قال: نعم. قال: فلا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة! فوقع هارون الرشيد على ظهره باكياً مغشياً عليه*4، ويروي أصحاب الأخبار أن أحد رعايا الرشيد عندما سمع بذلك علق ساخراً: يعطوني عُشر ما يملك الرشيد من جوارٍ وقصور لأقع كل يوم على ظهري مائة مرة!

يتبع



هوامش
*1ـ عبد الرضا حسين الطعان/ البعد الاجتماعي للأحزاب السياسية دراسة في علم الاجتماع السياسي/ جامعة بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة 1990 الصفحات من 328 وما بعدها.

*2ـللتفصيل انظر (رالف لنتون: دراسة الإنسان) ترجمة عبد الملك الناشف/ بيروت: المكتبة العصرية 1964 ص 360ـ 363.

*3ـ نلسون مانيلا/ رحلتي الطويلة من أجل الحرية/ ترجمة: عاشور الشامس/ جنوب إفريقيا/ جمعية نشر اللغة العربية/1998 ص 109
*4ـ الطرطوشي/ مكتبة المصطفى الالكترونية/ مكتبة الوراق الالكترونية[ الكتاب تم تأليفه سنة 1121م وهو يسبق ابن خلدون الذي أنهى مقدمته المشهورة عام 1378م ب 257 سنة، ويظهر ابن خلدون تأثره بالطرطوشي وإن كان ينتقده]
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس