عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-05-2010, 08:55 AM   #8
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

موقع العمل في القاعدة الاقتصادية

الحديث عن العمل، بشكل عام سيقود الى تفرعات كثيرة، منها ما يتعلق بضرورة العمل ومنها ما يتعلق بالرغبة بالعمل ومنها ما يتعلق بتقسيم العمل ومنها ما يتعلق بالمسئولية في تأمين العمل للمواطنين ومنها ما يتعلق بمردود العمل على مستوى الأفراد أو مستوى الجماعة أو مستوى القاعدة الاقتصادية الوطنية، وغير ذلك من العناوين الفرعية المهمة، ولكن سنستعرض ما يتعلق بمستوى فهمنا لتأثير العمل على القاعدة الاقتصادية.

وقبل أن ندخل في مناقشة موضوع العمل، دعنا نذكر ما رواه أحدهم ونتأمل في قوله: (لقد تزوجت في شتاء عام 1948، وكنت أعلم أن المساحة التي كُلفت من الأسرة في زراعتها بالقمح، لن يساعدني أحد على إنجازها، لأن كل من كان في عمري، كان مكلفاً بحجم عمل، عليه إنجازه في الوقت المحدد، فزراعة القمح لها موعدها، ولا يجوز تجاوز ذلك الموعد، ولأن وسائل الحراثة كانت بدائية (بواسطة الحيوانات) فإن تقديرات العاملين وخبرتهم تجعلهم يراقبون أنفسهم... قطعت إجازة عرسي في اليوم الثالث، وأخذت بغلي والمحراث والبذار وخرجت قبل الفجر حتى أصل الى الأرض التي سأزرعها وأحرثها، فأذن الفجر وأنا في طريقي، وكنت لا زلت على جنابة، فتذكرت قول والدي [ لا يصح أن نلمس القمح أو نبدأ العمل دون طهارة وصلاة]، فالتفت فإذا بتجمع لماء الأمطار وقد علا سطحه طبقة من الصقيع، فكسرتها، وأخذت من ماء المطر واغتسلت، وقمت بعملي، وعندما عدت في آخر النهار، كانت الحمى والقشعريرة قد نالت مني، ومع ذلك لم أتغيب عن عملي ساعة واحدة)


ضرورة العمل والرغبة فيه

هناك من ينظر الى العمل، على أنه نزوع فِطري لتوكيد ذات الإنسان، وهناك من ينظر إليه على أنه وسيلة أو معبر لتأمين ضرورات العيش، أي لتأمين دخل ثابت يستطيع الإنسان من خلاله إنجاز طلباته الأساسية التي تبدأ من إشباع المنفعة الحدية كتأمين السكن بشكله الأولي الذي يحقق استقرار الإنسان بعيداً عن الأذى الذي قد يلاقيه من الطبيعة (بردها وحرها ووحوشها)، أو يلاقيه من التطفل على خصوصياته التي تؤمنها عزلة السكن الخاص. أو كتأمين الطعام بشكله الأولي الذي يحفظ الحياة، والملبس وغيره، وما أن تتحقق تلك المطالب الأولية حتى تمتد رغبة الإنسان في تطويرها من حيث الفخامة والرفاه.

من ناحية أخرى، هناك من لا يُعلق أهمية على العمل، فيقول: إذا كان الناس يعملون من أجل أن يعيشوا، فإن كان باستطاعتهم العيش دون عمل، لماذا يعملون؟

هذه النظرة تغلغلت هذه الأيام في نفوس الكثيرين من أبناء دول العالم الثالث، فبالرغم من أن الفقر ينتشر في أوساطهم بشكل كبير، فإنهم ينزعون بتفكيرهم الى البحث عن مصادر رزق لا يتعبون في تحصيلها، فإن كان أحدهم قد ورث قطعة أرض أو عقار فإنه سيفكر على الفور ببيعها ليؤسس مشروعاً لا يكدح فيه، وإن لم يكن قد ورث شيئاً فإنه سيفكر بالهجرة بحثاً عن فردوس لا عمل فيه، أو أن العمل فيه أقل قسوة من العمل الذي في ذاكرته.

لقد أدت التطورات الحضارية في العالم وانتقالها بسرعة الى انتشار مفاهيم لم تكتمل بشكل وافٍ عند الناس للتعامل معها، فحتى الآباء والأجداد الذين كدحوا وتعبوا، أرادوا أن يريحوا أبنائهم من ذلك الكدح، وما التوجه الى التعليم في أحد أشكاله إلا دافعاً وراء تأمين شكلٍ مريح للأبناء. ولو سألنا طلاب الصف التاسع عن أحلامهم في المستقبل لرسم معظمهم صوراً، يكون فيها مديراً أو مشرفاً على آخرين يعملون!

فالرغبة بالعمل تتلاشى مع ضبابية الظنون التي يعيشها الإنسان، قبل مدة (سنة أو اثنتين)، كشفت فضائح (البورصة) التي أكلت معظم مدخرات الناس، راكضين وراء أوهام تعدهم بأرباحٍ هائلة وبوقت قياسي، ودون تعب!

إدارة العمل وتقسيمه بين الناس

في المثال الذي ورد بالقصة التي استهللنا بها الموضوع، كان الناس البسطاء يقسمون العمل فيما بينهم بصورة فطرية، وكان التقسيم في المجتمعات الزراعية يشمل كل أعضاء الأسرة حتى الأطفال منهم، والذين كانوا يكلفون برعاية من هم أصغر منهم أو الاعتناء بصغار الحيوانات، في حين كان يعرف الأب وتعرف الأم ويعرف كل يافع وراشد دوره بشكل صارم.

بعض المهندسين في أيامنا هذه، لا يدركون بشكل جيد إدارة العمل والعمال، فمثلاً كان أحدهم يخسر في كل المقاولات التي يأخذها، أو أنه يربح بشكل ضئيل لا يسد رمقه. ماذا كان يفعل؟ كان يقدر أن صب الكونكريت لسقف ما يحتاج الى ستة عمال، فيذهب بالصباح الباكر فيحضر العمال بسيارته ويذهب الى مطعم ليشتري فطوراً لهم ويذهب الى المخبز ليشتري خبزاً لهم ويكون متفقاً معهم على 60 دولاراً لذلك اليوم من العمل، وعندما يصل الى أرض الورشة يتذكر أنه لم يوصي على صهريج ماء، فيدفع أجور العمال ليواعدهم في اليوم التالي!

خطوات العمل المتسلسلة ومعرفة قدرة العامل على إنجاز ما يُطلب منه، تعتبر من الفنون التي نهضت بها الأمم المتقدمة. في دراسة أجريناها بين عامي 1974 و1977، على عشرة ألوان من العمل الزراعي (إنتاج حيواني، حقول، بساتين، غابات، وقاية نبات الخ) وجدنا أن معدل إنتاجية العامل الواحد يومياً هي ساعة و13 دقيقة، وعندما ناقشنا الأسباب والتي افترضنا لها أكثر من 100 سبب، منها الرواتب والتغذية والسكن والانتساب لنقابة أو حزب والديانة والطائفة ونمط الإدارة الخ، (كان ذلك في محطة بحوث بستنة نينوى/العراق)، خلصنا الى أن انتهاج العمل في بلداننا بالأجرة وقوانينه وإداراته لا زالت تحتاج الى المزيد من الدراسات والبحث.

الدولة وسوق العمل

لم تكن للوظائف العمومية في بلداننا تلك الأهمية التي أصبحت عليها في أيامنا هذه. ومعلوم أنه حتى منتصف فترة الحكم لمحمد علي باشا في مصر، لم تكن الدولة هي من يُعطي الرواتب للموظفين، بل كان الموظفون هم من يعطوا الدولة بدل تعيينهم، لأنهم كانوا يستوفون أتعابهم من العامة.

مع بدايات الدولة العربية في القرن العشرين، تم تدخل الدولة في إدارة شؤون الحياة العامة وحتى جزء من الحياة الخاصة، حيث تم تقليد الشكل القائم للدول التي كانت تستعمر بلداننا وتديرها.

وشيئاً فشيئاً، أصبح أثر الدولة يظهر جلياً في حياة الناس، فهي التي تخزن الأغذية وهي التي تنظم العلاقات العامة وهي التي تشرف على العقود المدنية والتجارية، وهي التي تشرف على التعليم،الخ. فانجذبت نفوس الناس إليها باعتبارها الملاذ الأكثر أمناً.

ولتوسع أدوار الدولة، احتاجت الحكومات الى أعدادٍ من الموظفين الجباة والعمال والموظفين والشرطة والجنود الخ. وظهر أن ما تعطيه الدولة من رواتب يفوق ما يحصل عليه المواطن العادي من كدحه في أعمال الرعي والزراعة والبناء، وظهر أيضاً أن تلك الميزات تعلو كلما علا قدر الموظف بدرجته وعلمه، فأخذ هذا المسار طريقه بتسارع أثر على خريطة الأعمال والحرف وغيرها.

بعد أن عجزت الدولة على استيعاب كامل القوى العاملة في الشعب، تراجعت الميزات التي كان يحصل عليها الموظف والعامل العمومي، لتصبح فيما بعد تلك الميزات والرواتب لا تغطي إلا جزءا يسيراً من متطلبات الحياة اليومية لهؤلاء العاملين، مما ترك أثراً سلبياً في أخلاقيات العمل (الفساد والرشوة والبطالة المقنعة ورداءة الإنتاج العمومي وتدني كمياته).

كما أن هذا الالتزام الأدبي غير المصرح به، قد أثقل كاهل المصاريف للدولة، وبنفس الوقت تفشت البطالة، وتشير بيانات البنك الدولي الى أن معدل البطالة خلال الفترة من العام 2000 الى العام 2005 قد بلغ في الجزائر 29.5% عام 2000 ليتراجع الى 15.3% في عام 2005. وفي مصر 11% والمغرب 11.2% والأردن 12.4% وتونس 14.7% والعراق 26.8% وكذلك في الأراضي الفلسطينية المحتلة*1

خلاصة:

لقد تأثرت القاعدة الاقتصادية الفردية والمؤسسية والحكومية، تأثراً بليغاً، ولا توحي المشاهد الحقيقية أن هناك من يتوجه بشكل جاد للخروج من تلك الحالة، وهذا بدوره يتطلب المزيد من البحث والمناقشة، لا على صعيد الحكومات، بل على صعيد الجامعات والنقابات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.

هوامش:

*1ـ حال الأمة العربية (2007ـ2008)/مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت/ صفحة 243.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس