عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-12-2008, 03:09 AM   #31
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

2- استعمال تعابير وتراكيب قرآنية:



فالمثل الذي سقناه، "فتحت فتحًا مبينًا مضاربه" مأخوذ كلماته كما قلنا من القرآن ، وما أكثر ما يضمن الشاعر تراكيب كما هي:

"والجوع لعنة آدم الأولى وارث الهالكين

ساواه والحيوان ثم رماه أسفل سافلين" (27)

ومن المؤكد أن الشاعر نظر إلى الآية "ثم رددناه أسفل سافلين" (28) ، وما فعل إلا أن استبدل كلمة بكلمة لملائمة الوزن الشعري.

وفي القرآن: "فهي خاويةٌ على عُروشها وبِئْرٌ مُعَطَلةٌ وقَصْرٌ مَشيد" (29).

و ها هو السياب يكرر حروف العطف على نسق القرآن ، ويستعمل تركيبًا ورد في الآية السابقة :

"خاتم وسوار وقصر مشيد

من عظام العبيد" (30).

وفي قول السياب:

"وكأن- يا بشرى- كأن هناك في أقصى الجنوب" (31) تذكرة بدعوة البشارة:"قال- يا بشرى-

هذا غلام" (32).

والاستعمالان اعتراضيان.

ويقول السياب: "ويصدى كل فج" (33 ، )فسرعان ما يتبادر إلى أذهاننا تركيب "كل فج..." (34).

وفي قول الشاعر: "قضي الأمر بالسفر" (35) استخدام لـ "قضي الأمر" الواردة في القرآن (36).

ومن التعابير القرآنية "ملح أجاج" و "عذب فرات" يقول تعالى: "هذا عَذْبٌ فُراتٌ وهذا ملحٌ أُجاج" (37).

فالسياب يقول مستعملا التركيبين:

"فما دهاه اليوم حتى غدا-
ملحًا أجاجًا بعد عذب فرات" (38).

كما يستعمل كلمة ( أجاج ) بمعنى المالح: "شربت أجاج الماء" (39).

والنفخ في الصور وارد في القرآن: "يومَ يُنْفَخُ في الصور فتأتون أفواجا" (40) ، فيقول السياب وهو يتمنى أن يكون له صوت قوي: "كنفخ الصور يسمع وقعة الموتى" (41).

وفي تعليق السياب: "وحق العقاب" (42) تطابق مع قوله تعالى: "إن كُلٌّ إلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فحَقَّ عِقاب" (43) .

وقول السياب في سياق ديني: "لقد أغضب الآثمون الإله وحق العقاب".

واستعمال "المن" و "السلوى" في الشعر عنده مأخوذ من القرآن "وأنزَلْنا عليهِم المَنَّ والسَّلْوى" (44) فالمن والسلوى المنزلان على بني إسرائيل يجعلهما الشاعر للاجئين ولكنهما من نوع جديد: من شعير، يقول السياب:

"يا مكتبا للغوث هب للتائهين
منًّـا وسلوى من شعير" (45).

تبين لنا مما سلف أن الشاعر يتناول التركيب القرآني ويدخله في نسيج شعره، ولم نلحظ فيما تتبعنا أنه اقتبس آية بكاملها ، كما عهدنا ذلك في بعض "الاقتباسات" البلاغية القديمة.



3- في المضمون:



الشاعر يتأثر بمضامين القرآن، فهو يتحدث عن الجنة والثمر.. وكأنه يستذكر قوله تعالى: "ولهم فيها مِنْ كُلِّ الثَّمَرات" (46) ، فيقول السياب:

"من نخل جيكور أجني دانـي الثمر" (47).

"لن أرى جنة الهوى- لا ولن اقطف الثمر" (48).

وهذا يذكرنا بقوله تعالى وصفًا لجنته - "قُطوفُها دانِيَة" (49 ؛ بل هناك آيات أعاد السياب صياغتها شعرًا:

"وبدا الموارى منهما فإذا هناك سوءتان

وعليهما طفقا من الورق المهدل يخصفان" (50).

وهذان البيتان مستمدان من قوله تعالى:

"فلما ذاقا الشَّجَرةَ بَدَتْ لهما سَوْءاتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عليهِما مِنْ وَرَقِ الجَنّة" (51).

وعندما يقول السياب عن المسيح:

"فسار يبعث الحياة في الضريح

ويبرئ الأبرص أو يجدد البصر" (52).

كما يقول في مكان آخر : "سيبرئ الأعمى- ويبعث من قرار القبر ميتا" (53).

فالسياب يتأثر مباشرة من مضمون الآية التي تتحدث عن المسيح: "وأُبْرئُ الأكُمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيي المَوْتى" (54).

ويقول الشاعر:

" وفتحت السماء لغيثها المدرار بابـًا بعد باب" (55)،.

فهو قد استذكر قوله تعالى: "وفُتِحَتِ السَّماءُ فكانَتْ أبْوابا" (56).

وكلمة "السماء" ارتبطت بكلمة "مدرار" في ثلاثة مواضع في القرآن (57)، فلا عجب إذا رأينا لصوقهما عند الشاعر.

وفي سورة مريم يقول تعالى: "وهُزّي إليْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عليكِ رُطَبًا جَنِيّا" (58).

والسياب يقول:

"إنه الرطب

تساقط في يد العذراء وهي تهز في لهفة

بجذع النخلة..." (59).

فالشاعر تخيل ما حدث بعد أمر الله إلى مريم، وهو يتحدث عن النخل في العراق ...ثم عن المطر والخير اللذين يعقبانه، فالرطب عطاء لمريم ساعة الضيق، وهو ما يتشوق إليه الشاعر حتى يتخلص مما يعانيه.

يقول د. عز الدين إسماعيل في مقالـة له: "فالشاعر الذي هدّه السفر وأيأسه المرض لا بد أن ينتظر معجزة تفتح أمامه باب الحياة من جديد، وتذهب بالمخاوف في نفسه وتشيع فيها الأمن، ولنتدبر كيف تسرب هذا المعنى إلى نفس الشاعر من بقية الآية، لقد اتخذت الآية الكريمة في نفس الشاعر مسارًا نفسيًا خاصة وتحددت أمامه ببعد شعوري يرتبط بأزمته الراهنة" (60).

وفي حين يقسم القرآن "والليل إِذا عسْعَس" (61) يستعمل شاعرنا نفس الكلمات بصيغة الشرط: "وإن عسعس الليل" (62)، "حين يعسعس الوسن" (63)، والآية القرآنية المذكورة متلوّة بآية أخرى "والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّس" لكن الشاعر آثر أن تتغير كلمة "الصبح" فيأتي بمرادفة لها ، وذلك إذ يقول: "تنفس الغد في اليتيم" (64).

ومن تأثير القرآن مضمونًا ما قاله السياب:

"سيعلمون من الذي هو في ضلال" (65).

والآية تنص: "فَسَتَعْلمونَ مَنْ هو في ضَلالٍ مُبيِن"(66) وهو تطابق إلا ما ألزمته الضرورة الشعرية واللغوية.

وقول السياب: "أنا مع الصبح على موعد" (67)، صياغة أخرى لقوله تعالى: "إِنْ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْح" (68).

فالموعد في الحالين هو في الصباح، أما ما يتبع ذلك فهناك تباين، إذ معنى "الصبح" في القرآن وارد على وجه التعميم بترقب العذاب والتهديد للكفار، بينما "الصبح" عند الشاعر هو رمز تفاؤل وخير.



4- الأجواء القرآنية والإيحاء:



لعل أبرز ما يوحي لنا بهذه الأجواء بعض الكلمات التي تشير إلى الصورة القرآنية، فعندما يقول الشاعر:

"فرأى القبور يهب موتاهن فوجًا بعد فوج" (69). فان كلمة "فوج" تستدعي تذكّرنا للموقف يوم القيامة: "يَوْمَ يُنْفَخُ في الصّورِ فَتَأتون أفْواجا" (70).

وفي قول السياب: "يتنفس في كهف هار" (71) يخطر في بالنا قوله تعالى: "جُرُفٍ هارٍ" (72) ، والشاعر استعمل "هار" بعد الاسم الموصوف ، لأنه يريد أن يبين عمق المكان ونتانة التنفس فيه، بالإضافة إلى أن في المخرج الصوتي للفظتين "كهف" و "جرف" تشابهًا.

ويقول الشاعر:

"قبس من نور قلبي مشرق في ناظريك" (73).

هذا القبس يذكرنا بقوله تعالى: "أنظُرونا نَقْتَبِسْ من نورِكُم" (74).

فبينما يتحدث القرآن على لسان المنافقين وهم يخاطبون المؤمنين ، فإن الشاعر يورد هذا في معرض الغزل فقبس النور من قلبه يشرق في عينيها.

ويقول الشاعر:

"بجرتها من دافق الماء سلسل" (75).
ودافق الماء إضافة لفظية وقلب لقوله تعالى:

"مِنْ ماءٍ دافِق" (76).

فالشاعر تحدث عن الماء المتدفق ، بينما كان الماء في القرآن مجازًا.

ويقول الشاعر:

"ألا وقرت آذان من يسمعونه" (77).

ووقر الآذان تعبير قرآني: "وفي آذانهم وَقْرًا" (78).

فالشاعر صاغ جملته بأسلوب إنشائي دعائي يعبر فيها عن انفعاله ، بينما هي في القرآن جملة خبرية.

وتفجير العيون وارد في القرآن بصيغة خبرية:

"وفَجَّرْنا فيها مِنَ العُيون" (79).

" وفَجَّرْنا الأَرْضَ عُيونـًا فالتَقَى الماءُ" (80) ؛فالشاعر يصوغ بعض كلماتها بأسلوب إنشائي استفهامي: (81)

"فمن يفجر الماء منها عيونا لتُبنى قرانا عليها".

ويقول السياب بأسلوب التمني الذي يعبر عن تشفّيه : :

"لو تستطيع الكلام

لصبت على الظالمين

حميمًا من اللعنات" (82).

فنلحظ أن بعض كلماتها توحي لنا بالآية: "قُطّعَتْ لَهُم ثِيابٌ من نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقَ رؤوسِهم الحَميم" (83) ؛

وهذه الصورة أيضا نجدها عند الشاعر في قوله:

"ستنصب نار" (84)، كما أن قول الشاعر:

"ولا تلظّى بناره" (85) يذكرنا بقوله تعالى:

"فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظى" (86).

وتعبير "العيون الحور" عند الشاعر مأخوذ من قوله تعالى : "حُورٌ عين" (87).

فالعيون "الحور" و "الشراب" من كلمات القرآن المترددة في وصف الجنة والشاعر يقول:

"العيون الحور لو أصبحن ظلاً في شراييني" (88) ، "من الأعين الحور ينبوعها" (89).

وعندما يقول الشاعر "فينفطر قلب السماء" (90) لا شك انه يستوحي جو الآية "إِذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ" (91)، وكلمة "انفطر" في كل استعمال لها في القرآن ملازم لكلمة "السماء"، لكن الشاعر يمزج بين التعبير القرآني وبين التعبير الدارج "انفطر عليه"، ويقول الشاعر:

"لم تترك الرياح من ثمود

في الواد من أثر" (92).

إشارة إلى قوله تعالى: "وَثَمود الذين جابُوا الصَّخْرَ بالواد" (93) ويذهب تفسير الجلالين إلى أن كلمة "الواد" تعني وادي القرى، وفي "معاجم اللغة" الوادي- منفرج بين جبال إن آكام يكون منفذًا للسيل؛ فالشاعر -كما رأينا - يستعمل كلمة "الواد" بحذف الياء وليس له أي مبرر، ففي القرآن حذفت الياء لأنها في نهاية آية ، وحفاظًا على الفاصلة القرآنية، بينما هي عند الشاعر حافظت على رسمها القرآني كما هو.

ولنلاحظ كيف يستعمل الشاعر الكلمات القرآنية من أكثر من آية، فالسياب يقول:

"كورت النجوم إلى نداء: قابيل أين أخوك" (94) يجمع الكلمات من أكثر من آية: "إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وإذا النُّجوم انْكَدَرَتْ" (95) ، ثم لم يلبث في معرض حديثه عن اللاجئين أن يخاطب قابيل الوارد ذكره في القرآن (المائدة 31)، كما نلحظ أن كلمة "نداء" وردت في القرآن بمثل الجو الذي وصفه السياب في قصيدته "قافلة الضياع"- يقول تعالى: "وَمَثَلُ الذينَ كفروا كَمَثَلِ الذي يَنْعَقُ بما لا يَسْمَعُ إلا دُعاءً ونِداء" (96).

وفي قافلة الضياع يقول الشاعر:

"جمعت السماء آمادها لتصيح
كورت النجوم إلى نداء، قابيل أين أخوك؟" (97).

ويقول السياب: "... ابَّنه في موته والمضغة الصلصال" (98) "والمضغة" و "الصلصال" تتعلقان بخلق الإنسان: "إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ" (99)، "خُلِقَ الإِنسَّانُ مِنْ صَلْصَّالٍ كَالفَخّار" (100).

ويبدو أن الأصداء القرآنية تبقى في نفَس القصيدة، فكلمة "الفخار" التي في الآية الأخيرة يستعملها السياب في مكان آخر من القصيدة التي استشهدنا منها (101).

ويقول الشاعر:

"وانجلى الفجر حاملاً بين كفيه سعيرا

عذابه يصليني" (102).

وفي القرآن : "وَيَصْلَى سَعيرا" (103)، وكلمة "يَصْلَى" تتردد عند الشاعر، وعلى سبيل المثال: "اصلوها نارا" (104)، وهي مطابقة لقوله تعالى : "واصْلَوْها..." (105) والكلمات بتجميعها تدعنا نتذكر آيات مشابهة، ففي قول السياب:

"أنها عادت هشيما يوم أن أمسيت ريحا" (106).

(116).
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس