عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 03-03-2008, 11:44 PM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

مفهوم الدولة

لو حاول أحدنا تصنيف ما يقوله الناس عن الدولة، لوقع بحيرة كبيرة في تحديد شكل المقولات، فمنهم من ينظر لها من زاوية غلاء الأسعار ومنهم من ينظر لها من زاوية إطلاق الحريات، ومنهم من ينظر إليها من زاوية تأمين الكرامة الوطنية ومنهم من ينظر إليها من زاوية التشريعات التي تسنها وتغض النظر عن تجاوزها من قبل البعض الخ

( إن الفيلسوف لا يتعامل مع معطيات التاريخ مثل العالم الاجتماعي أو المؤرخ، والمؤرخ لا يستغل استخلاصات الفلاسفة والاجتماعيين كما يفعل غيره. إن الباحث في هدف الدولة، رغم سرده للأحداث، لا يكتفي بالنظرة التطورية وإلا خرج عن حيز الفلسفة. لا بد له أن يتجاوز أنماط الدولة المتلاحقة ليصل الى مفهوم الدولة في حد ذاتها وليطرح على النطاق العام المجرد السؤال التالي: ما هو هدف الدولة؟)*1

لو عرضنا مقالتين كان لهما تأثير واسع في مجرى التاريخ البشري، ولم تعط أية واحدة منهما للدولة استقلالا كافيا لكي تهيئ تربة فكرية لنشأة نظرية الدولة، بالمعنى الدقيق للكلمة.

المقالة الأولى: تقرر أن الغاية المقدرة للبشر ليست من عالم المرئيات وأن الحياة الدنيا هي بمثابة تجربة يجتازها المرء ليعرف قيمته وما يستحق من جزاء في حياة أخرى محجوبة عنه الآن وغير متناهية .. فالتوجه هنا في تلك المقالة يكون للوجدان الفردي لكي ينفصل عن قوانين الحياة الدنيا الخادعة.

فالدولة في تلك المقالة عبارة عن تنظيم اجتماعي اصطناعي لا يمكن أن يتضمن قيمة أعلى من قيمة الحياة الدنيا كلها، فإن كانت الدولة في خدمة الفرد لكي يحقق غايته المنضبطة (وجدانيا) مع روح المقالة فهي مقبولة شرعيا. أما إذا منعته من أن يلبي الدعوة الموجهة الى وجدانه أو تجاهلت الهدف الأسمى أو عارضته فهي مرفوضة ولا شرعية ..

في تلك المقالة تتحدد واجبات الفرد في تربة فكرية ترسم النظريات الأخلاقية التي تحدد مسئوليات الدولة، وهنا فإن الشريعة هي مجموعة القيم المتولدة عن الغاية العليا والتي يعمل الفرد على تحقيقها والأخلاق هي مجموع طرائق السلوك التي تتجسد فيها تلك القيم. فتخاطب الشريعة في آخر المطاف (الفرد) .. والأخلاق هي أخلاق الفرد عندئذ، ولا معنى للكلام هنا عن أخلاق الدولة!

هناك تمييز دائم بين الفرد وبين الدولة، بين القانون الوجداني الفردي ( القانون الجواني) وبين القانون الذي تصدره الدولة (القانون البراني) .. ليس بالضرورة أن يتعارض القانونان باستمرار.. فقد يكون قانون الدولة خاصا بالحياة الحيوانية في الإنسان التي هي ضرورية لحياة (روحه) ..

لقد تعددت في التاريخ أشكال تلك المقالة من قبل المسيح عليه السلام عند اليونانيين وامتدت حتى وصلت فقهاء الإسلام*2


المقالة الثانية: تقرر أن غاية الإنسان هي المعرفة والرفاهية والسعادة. إن الإنسان وليد الطبيعة، يصبو الى سد حاجاته البدنية والفكرية المتنامية باستمرار. فيتجه الى الطبيعة التي تمده بالوسائل الضرورية لذلك. من أهم تلك الوسائل التعاون. إن قوة الإنسان في الأساس قوة جماعية: إذا نظرنا إليها من زاوية الحاضر وجدناها تنشأ عن التعاون وإذا نظرنا إليها من زاوية الماضي وجدناها مدخرة في العادات، في الثقافة، في اللغة. المجتمع إذن نظام طبيعي ضروري، فهو بالتالي معقول متكامل متجانس، لا توجد فيه تناقضات تلزم تدخل قوة رادعة من الخارج. نلاحظ في هذا الاستدراج لتلك المقالة أن الناس في الوقت الحاضر لا يلجئون الى الدولة (الشكوى والقضاء الخ) إلا بعد استنزاف وسائل حلها فيما بين المختلفين وفق عادات وطرائق جربها المجتمع سابقا.

إن الدولة الطبيعية تخدم المجتمع بقدر ما يخدم المجتمع الفرد العاقل: تنظم التعاون، تمهد طرق السعي، تشجع الكسب وطلب العلم. المطلوب منها بالأساس الحفاظ على الأمن في الداخل والسلم في الخارج، أي ردع العنف اللامعقول، ما دام له أثر بين البشر .. بقدر ما تتقدم الإنسانية في سبيل العلم والرفاهية والسعادة بقدر ما تخف ضرورة اللجوء الى الدولة بشأن المحافظة على السلم، فتتلاشى وسائل الدولة الزجرية والقمعية..

أما الدولة الفاسدة المناقضة للمجتمع المبنية على العنف واستعباد الناس، فليست سوى مؤامرة ضد الإنسانية. لقد أنتجتها تاريخيا عملية سطو قام بها النبلاء (وليسوا في الأصل سوى قطاع طرق) والكهان (وليسوا سوى مغترين مزورين) اختلقوا خرافة الإنسان الشرير، أسطورة الفرد اللاإجتماعي الذي يفضل الجهل على العلم ويسعد عندما يلحق الضرر بأخيه الإنسان. هذه خرافة اختلقتها أقلية شريرة لتثبيت حكمها والدفاع عن امتيازاتها*3

هاتان مقالتان متعارضتان تعارضا تاما، في الظاهر نراهما تتصارعان في الفلسفة اليونانية وداخل الفكر الإسلامي (أخوان الصفا) وفي الفلسفة الغربية الحديثة، يصل تعارضهما الى حد أن الكلمة الواحدة (عقل، طبيعة، أخلاق) تؤدي في كل واحدة منهما معنى معاكس لما تعنيه في الأخرى. رغم ذلك فالمقالتان متفقتان على كيفية تصور المشكلات في منظومة فكرية معينة (تخص الدولة).


كيف فهم العرب القدماء فكرة الدولة

عندما نقول العرب في هذا المقام، فإننا نقصد أولئك الذين نزل عليهم الإسلام في بداياته، وهم عرب الجزيرة والعراق وبلاد الشام .. فهؤلاء لم يكونوا بعيدين عن محاولات جادة و متكاملة في تأسيس الدول، خصوصا أولئك الذين كانوا في اليمن*4 أو الإمارات التي كانت في نجد و الحجاز والعراق وبلاد الشام كإمارة كندة وإمارة الغساسنة وإمارة المناذرة *5 .. ومع ذلك فقد ورث العرب تراث التعاطي مع فكرة الدولة من خلال إرثهم لحضارات ما بين الرافدين أو مصر*6

وبعد دخول الإسلام الى قلب الجزيرة العربية، أحس الرسول صلى الله عليه وسلم بوجوب الإحاطة بطرق إدارة الدولة فبعث بالعام الخامس للهجرة للحبشة، للفرار من الفتنة أولا ولنشر الدعوة الإسلامية ثانيا و للدراسة الميدانية لطريقة إدارة الأحباش لدولتهم*7

وسنفرد في المرة القادمة حول تطور الفهم العربي الإسلامي لمفهوم الدولة

هوامش

*1ـ مفهوم الدولة/ عبد الله العروي/ المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/ المغرب/ الطبعة السابعة 2001/ ص 8

*2ـ يقول ابن تيمية : الأصل أن الله خلق الأموال إعانة على عبادته لأنه خلق الخلق لعبادته (السياسة الشرعية ص 39)

*3ـ يقول فيخته : (إني أعلم أنكم ستذكرون لا محالة أن بني آدم أشرار. وهذا ما لم أتوصل الى إقناع نفسي به) ذكره عبد الله العروي في هامش صفحة15

*4ـ ممكن الرجوع لموسوعة العلامة جواد علي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) الصادر عن دار العلم للملايين/بيروت

*5ـ ممكن الرجوع لكتاب الحياة السياسية عند العرب/ دراسة مقارنة على ضوء الإسلام/ تأليف: محمد حامد الناصر /دار الجيل/بيروت/1994/ صفحات 29ـ 36.

*6ـ ممكن الرجوع لكتاب : مقدمة في دراسة المجتمع العربي والحضارة العربية/ الياس فرح/ دار الطليعة ـ بيروت/ ط2 /1980/ فصل يصف فيه الطريقة التي كانت تدار فيها مكة عشية ظهور الإسلام صفحة 44 وما بعدها.

*7ـ النظام السياسي في الإسلام/ محمد عبد القادر أبو فارس/ دار الفرقان / عمان ـ الأردن/ 1986صفحة 134
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس