عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-08-2008, 02:53 PM   #3
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

كاتب الموضوع: رافع الصفار - 18-04-2006


حادث اصطدام



قصة:غراهام غرين



ترجمة: رافع الصفار



1



صباح يوم الثلاثاء، أستدعي جيروم إلى غرفة المدير خلال فترة الإستراحة بين الحصتين الثانية والثالثة. ولم يكن خائفا من المشاكل، لأنه كان (حارسا) وهو اللقب الذي ارتأى صاحب المدرسة ومديرها أن يطلقاه على الأولاد المميزين والموثوق بهم في المرحلة الأساسية، بعدها يتم ترقيتهم إلى لقب (راعي)، وأخيرا وقبل مغادرتهم المدرسة ذات الإمتيازات العالية، وعلى أمل أن تكون وجهتهم إلى (مارلبورو) أو إلى (فريق الركبي)، يحصلون على لقب (صليبي). وكان السيد (ووردزورث)، مدير المدرسة، جالسا خلف مكتبه وقد بدت عليه علائم التوجس والإرتباك. وعندما دخل جيروم الغرفة تكون لديه انطباع بأنه ربما يكون سبب هذا الخوف.



بادر المدير إلى القول:



- إجلس يا جيروم. هل الأمور جيدة في مادة المثلثات؟



- نعم..أستاذ.



- استلمت إتصالا تلفونيا من عمتك، وأخشى أن هنالك أخبارا سيئة.



- نعم...أستاذ ؟



- والدك تعرض لحادث.



- أوه.



نظر المدير إلى جيروم باندهاش. أضاف قائلا:



- حادث خطير.



- نعم...أستاذ ؟



كان جيروم يحب أباه إلى درجة العبادة. وكما يعيد الإنسان خلق الرب، فإن جيروم أعاد خلق أبيه..من مجرد مؤلف أرمل غير مستقر الى.. مغامر غامض يجوب أصقاع الأرض..نيس، بيروت، مايوركا..وحتى جزر الكناري. والآن يبدو أن والده قد تعرض لوابل من رصاص رشاش أوتوماتيكي.



كان السيد ووردزورث يلعب بالمسطرة فوق المكتب. كان تائها لا يدري كيف يواصل حديثه. قال:



- انت تعرف بأن أباك كان في نابولي.



- نعم..أستاذ.



- عمتك إستلمت إتصالا من المستشفى اليوم.



- أوه.



قال المدير وهو في حالة يأس تام:



- كان حادث طريق.



- نعم استاذ ؟



كان جيروم على يقين من أنهم لن يطلقوا على الحادث إسما آخر. وبطبيعة الحال فإن الشرطة هي التي بدأت بإطلاق النار، أما بالنسبة لأبيه فإن التضحية بحياة الإنسان هي الملاذ الأخير.



- أخشى أن يكون أبوك في حالة خطيرة جدا.



- أوه.



- في الحقيقة يا جيروم أن أباك توفي بالأمس...ومن دون أن يتألم كثيرا.



- هل كانت الإطلاقات موجهة إلى قلبه؟



- عفوا، ماذا قلت؟



- هل كانت الإطلاقات موجهة إلى قلبه؟



- لم يطلق أحد عليه النار ياجيروم. لقد سقط عليه خنزير.



وتقلصت عضلات وجه المدير، كما لو أنه كان على وشك أن يضحك. أغلق عينيه وأعاد تشكيل ملامح وجهه بشيء من التجهم وقال بسرعة:



- كان والدك ماشيا في أحد شوارع نابولي عندما سقط عليه خنزير. حادث مريع حقا...على ما يبدو أن الناس في الأحياء الفقيرة من مدينة نابولي يحتفظون بالخنازير في شرفات البناية. وكان هذا الخنزير في الدور الخامس، ولعل زيادة وزنه أدت إلى تهدم الشرفة، فسقط الخنزير على أبيك.



عندها نهض السيد وردزورث من مكتبه وتوجه إلى النافذة معطيا ظهره لجيروم.



قال جيروم متسائلا:



- وماذا حدث للخنزير؟







2



لم يكن ذلك تبلدا في الأحاسيس من جانب جيروم حسب التفسير الذي ذهب إليه السيد وردزورث عندما نقل لزملائه الطريقة التي تلقى بها الفتى خبر وفاة والده. كان جيروم يحاول رسم المشهد الغريب للوصول إلى التفاصيل الصحيحة. كما أنه لم يكن من النوع الذي يمكن أن ينهار سريعا، بل على العكس من ذلك كان فتى شديد التأمل، ولم يحدث له طوال فترة وجوده في المدرسة الإعداية أن وجد نفسه في موقف يكشف له حقيقة الوضع العبثي والمضحك لوفاة والده، بل ظلت واعتبرها هو جزءا من أسرار الحياة. لكن في فترة لاحقة، خلال الفصل الأول له في المدرسة الثانوية العامة، عندما حكى القصة لأحد أصدقائه المقربين، بدأ يدرك طبيعة التأثير الذي يمكن أن تتركه لدى الآخرين. بعد تلك المواجهة صار يُعرف من قبل الجميع وبشكل لاعقلاني وغير عادل بإسم (خنزير).



ولسوء حظه لم تكن عمته تملك شيئا من حس النكتة. كان هنالك صورة لأبيه مكبرة وموضوعة على جهاز البيانو، رجل ضخم حزين الملامح يرتدي بدلة سوداء ذات حجم غير مناسب، في مدينة كابري، يحمل بيده مظلة (كي تحميه من ضربة الشمس)، وصخور (الفاراغليون) تشكل خلفية الصورة. في سن السادسة عشرة، كان جيروم يدرك تماما بأن الصورة لمؤلف كتب (شروق الشمس والظلال) و (متسكعون في الباليرك) أكثر مما هي لعميل في المخابرات. رغم ذلك كان يحب ذكرى أبيه، فهو ما يزال يحتفظ بألبوم يضم صور الكارتات التي استلمها من أبيه خلال رحلاته المتعددة (بعد أن عمل على نقل الطوابع منها إلى ألبوم آخر)، وكان يتألم كثيرا عندما يسمع عمته تروي وفاة والده للغرباء.



وغالبا ما تبدأ قصتها قائلة:



- حادث إصطدام مريع.



عندها تتشكل ملامح التعاطف والفضول على وجه الغريب أو الغريبة، وهي دون شك ملامح زائفة، لكن ما كان يرعب جيروم كثيرا رؤيته للفضول الحقيقي وهو يطل من عيني المستمع أو المستمعة بعد أن تتكشف جوانب الحدث المثير في القصة.



وتقول العمة:



- لا أدري كيف يمكن لأمور كهذه أن تحدث في بلد متمدن. وأعتقد أن إيطاليا كما يفترض الجميع هي بلد متمدن. نعم المرء يتوقع كل شيء وهو خارج بلده، وأخي رحالة كبير. كان على الدوام يحمل فلتر الماء معه بدلا من شراء قناني المياه المعدنية لتوفير مبلغ لابأس به من المال. وكان دائما ما يقول بأن الفلتر يوفر له على الأقل نفقات مشروبه. ولعل في هذا ما يدلل بأنه كان رجلا حريصا وحذرا، فهل تتوقع بالله عليك وبينما هو يقطع شارع دوتور مانويل بانوتشي في طريقه إلى متحف الهايدروكرافيك أن يسقط عليه من السماء خنزير.



لم يكن والد جيروم كاتبا متميزا، ولكن غالبا ما يحدث بعد موت الكاتب أن يبادر أحد المهتمين بالكتابة إلى الملحق الأدبي لجريدة التايمز يعلن عن نيته بكتابة السيرة الذاتية للأديب المتوفى ويسأل عمن يستطيع أن يزوده برسائل ووثائق تخص الكاتب، أو اية قصة أو حكاية يمكن أن يبعثها الأصدقاء والأقارب. وبطبيعة الحال فإن معظم السير الذاتية لا تظهر أبدا مما يدفع المرء إلى التساؤل فيما إذا كان الأمر برمته لايتعدى أحد أشكال الإبتزاز الخفي، أو أن الكاتب المزعوم للسيرة قد وجد في ذلك سبيلا لإنهاء دراسته في كنساس أو نوتنغهام.



وجيروم، على كل حال، بإعتباره محاسبا مرخصا لم يكن يفقه شيئا من عالم الأدب والأدباء. وكان في الحقيقة يبالغ كثيرا في حجم الخطر الذي يتهدده بسبب الحادثة الغريبة التي أدت إلى موت أبيه. لهذا بدأ يلجأ في الفترة الأخيرة إلى التدرب على أفضل طريقة في سرد القصة من أجل التقليل من العنصر الفكاهي فيها إلى الحدود الدنيا الممكنة. وبالطبع من غير الممكن أن يرفض في تقديم المعلومات، ففي مثل هذه الحالة ومن دون شك سيلجأ كاتب السيرة إلى عمته التي سوف تسرد له كل التفاصيل دون أدنى تردد.



وقد توصل إلى طريقتين. الأولى تسرد التفاصيل بطريقة متأنية وهادئة من شأنها أن تجعل الحادثة الرئيسية (موت والده) شيئا ثانويا، إذ أن خطر الانفجار بالضحك يكمن دوما في عنصر المفاجأة، ولهذا فهو في طريقته هذه يبدأ بالتحدث بصورة مملة ومضجرة قائلا:



- هل تعرف شيئا عن نابولي ومبانيها السكنية الشاهقة الارتفاع؟ قال لي أحدهم مرة بأن سكان نابولي يشعرون في نيويورك وكأنهم في مدينتهم، تماما كشعور أهل تورين وهم في لندن، لوجود النهر في كلا المدينتين كما تعرف.... عم كنت أتحدث؟ آآآ..نعم، نابولي.. بالطبع. ستصيبك الدهشة بالتأكيد عندما تعرف ماذا يضع الناس في الأحياء الأكثر فقرا في شرفات البنايات، لا..لا.. ليس الغسيل كما هو متوقع..بل أشياء مثل..بعض الحيوانات كالدجاج...أو حتى الخنازير. وطبعا هذه الخنازير لاتمارس أي نوع من الحركة في مكان ضيق كالشرفة مما يؤدي بالتأكيد إلى زيادة وزنها في وقت قياسي وبشكل غير طبيعي على الإطلاق.



يمكنه الآن أن يتخيل مستمعه وقد اتسعت عيناه وتألقت.



- هل لديك أدنى فكرة عن الوزن الذي يمكن أن يبلغه خنزير كهذا. أنا لا أعرف بالضبط، ولكن حدث أن شرفة في الدور الخامس قد انهارت تحت أحد هذه الخنازير، فاصطدمت بشرفة الدور الثالث قبل أن يسقط الخنزير إلى الشارع. كان والدي في طريقه إلى متحف الهايدروكرافيك عندما سقط هذا الخنزير عليه، فتوفي في الحال.



ربما كانت هذه محاولة فذة في وضع الموضوع الممتع ضمن إطار ممل.



الطريقة الثانية تتسم بالإيجاز الشديد:



- لم يكن موته طبيعيا بل قتله خنزير.



- وأين حدث هذا؟ في الهند؟



- لا في إيطاليا.



- غريب، لم أعرف أبدا بأن الايطاليين يهوون مطاردة الخنازير. هل كان أبوك مولعا بلعبة البولو؟



ومع مرور السنوات، ليس مبكرا جدا ولا متأخرا جدا، وبعد أن تعامل مع الموضوع، باعتباره محاسبا مرخصا، حسابيا وبالأرقام واستخرج النسبة والمعدل، قرر أن يتزوج من فتاة مليحة الوجه في الخامسة والعشرين من عمرها، أبوها يعمل طبيبا في (Pinner)، واسمها (سالي) وكاتبها المفضل هو (Hugh Walpole)، وتعشق الأطفال منذ أن حصلت وهي الخامسة من عمرها على دميتها الأولى التي تحرك عينيها وتذرف الدموع. وكانت العلاقة بينهما هادئة وخالية من الانفعالات العاطفية مما ساعد على بقائها واستمرارها لأنها ببساطة شديدة لم تكن تتعارض مع حساباته وأرقامه.



ظلت مسألة واحدة تقلقه كثيرا. حبه الكبير لأبيه، وتشبثه بهذا الحب وخوفه من أن تهتز صورة هذا الحب لو أن سالي لم تدرك تماما جوانب الموضوع وانفجرت بالضحك عند سماعها لقصة وفاة والده. وسيكون من المحتم أن تسمعها عندما يأخذها إلى العشاء مع عمته. وقد حاول في بضعة مناسبات أن يحكي لها القصة بنفسه، بما أنها كانت متلهفة لمعرفة كل شيء عنه.



- هل كنت صغيرا عندما توفي والدك؟



- فقط تسع سنوات.



- أمر محزن.



- كنت في المدرسة عندما نقلوا لي الخبر.



- وكيف كان وقعه عليك؟



- لا أتذكر.



- لم تخبرني أبدا كيف حدثت الوفاة.



- حادث طريق....وحدث الأمر بسرعة.



- وماذا عنك يا جيمي (صارت تدعوه بجيمي)، هل تقود بسرعة؟



ولم يتمكن من الانتقال إلى الطريقة الثانية التي تتحدث عن مطاردة الخنازير.



وكانا يخططان للزواج في مكتب للتسجيل وقضاء شهر العسل في (توركوَي)، وقد تجنب جيروم أخذ عروسه إلى عمته حتى الأسبوع الأخير من موعد العرس. وعندما حلت الليلة التي تلتقي فيها عروسه بعمته لم يكن على يقين فيما إذا كان قلقا وخائفا على ذكرى أبيه أم على حبه.



وجاءت اللحظة بأسرع مما كان يتوقع، عندما سألت سالي وهي تلتقط صورة الرجل صاحب المظلة:



- هل هذه صورة والد جيمي؟



- نعم يا عزيزتي، ولكن كيف عرفت ذلك؟



- له نفس عيني وحاجبي جيروم...أليس كذلك؟



- هل أعارك جيروم كتب أبيه؟



- لا لم يفعل.





السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس