عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-05-2006, 03:23 PM   #27
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

( 11 )

لم تكن في العتيقة طبقات .. بل كاد أن يكون الناس قد تكاثروا بطريقة التكاثر الخضري عند النباتات ، قد تكونوا من عقل ( بضم العين وفتح القاف ) .. غرست في بيئة متشابهة .. فكانت أشكالهم متقاربة رغم أن صبغة ألوانهم تختلف بعض الشيء من واحد لآخر .. فلو صادفت أحدهم بالصين أو بريطانيا ، لعرفت أنه من العتيقة ..

كانت خطوط ملامح شخوصهم تتكون من خلال قسوة ظروفهم ، فتقرأ ما في وجوههم وتردها لمنشأها دون عناء ..قد يكون للغذاء دور ، فاللحم البلدي يعرف أنه كذلك ، لنمط الغذاء الذي يتناوله الخروف البلدي .. فيسهل تمييزه عند من يأكله عن الخروف الروماني أو النيوزلندي ، ويصر من يأكل الخروف البلدي على أنه أفضل من المستورد ، رغم افتقار مراعينا عن مراعي رومانيا او بلغاريا أو غيرها .. ولكن حتى النكهات على ما يبدو ترتبط بالذاكرة ..

أحيانا يلجأ خبراء الإجرام باعتماد حدقة العين لجثة مقتول للتعرف على قاتله ، وقد تكون حدقة الأحياء من البشر تدلل على منشأهم .. فقد تكون مصادفة أفعى في فراش شخص تترك أثرا على شكل حدقته ، وقد تكون دهشة فلاح علق آمالا على حقله إثر موسم أمطار ممتاز ، ولكنه عندما زاره متفقدا قبل الحصاد رأى أن سنابله فارغة ، فبقي مندهشا وتأثرت حدقته بذلك الاندهاش ، وقد يصادف عدة خرافا قد مزقتها الذئاب ، فأضيفت بصمة جديدة على ملامح وجهه ، فأصبحت وجوه أهل العتيقة كأنها شهادات ميلاد يقرأها من عرفهم في وجوههم رغم اختلاف شكل الأنف أو عرض الجبهة أو لون البشرة .. فيقر أن فلانا من أهل العتيقة ..

هناك الكثير من المسائل التي ينظر إليها من لا يعرفها تماما ، على أنها متشابهة ، كنظرنا لأهل الصين مثلا ، أو نظرهم لنا ، وهنا يصبح تضليل وخداع لمن يريد أن يحدد المنطقة ، فيصعب علينا مثلا معرفة أفراد أهل الكمرون عن ساحل العاج ، ولكن يمكن لأهل أي قرية أو حتى عشيرة أن يتعرفوا على بعض من خلال حاسة خفية ، فقد تجد اتصال الحاجبين فوق العينين هو ما يميز أفراد أسرة عن غيرها ، أو تجد التأتأة في بداية الحديث هي ما يرد فردا لمجموعة ، هناك ملايين العوامل التي تجعل الفرد أن يتخذ قراره بسرعة ، كما يفعل حكم مباراة كرة القدم .. أو كما يفعل أفراد طائفة نحل أو نمل ، رغم أن الإنسان العادي لا يستطيع تمييز ذلك وهو أرقى من الحشرات بالطبع !
كما أن المهارات المتكررة لأي مجموعة ، تساعد في صبغها بصبغة خاصة ، فعندما تتكرر واجبات المواطن اليومية ، وتتكرر عند كل المواطنين فإنها تضيف إليهم سمة معينة ، فسكان الجبال غير سكان السهول ، بطبيعة مشيهم وطبيعة حذرهم وانحناء ظهورهم نتيجة التضاريس ، وسرعة استجابتهم للعامل الخارجي ، كل ذلك يعطيهم لونا خاصا بهم ، فلنتصور أن فريقا مكون من أفراد مختلفين قد ذهب للبحث عن الكمأة في الأرض ، إن من يتفوق في سرعة العثور ، هو من تكررت عنده تلك المهارات .. تماما كما يستطيع الرياضيون أن يميزوا أسلوب لعب البرازيليين لكرة القدم ويميزوه عن الأسلوب الأرجنتيني أو الإنجليزي ، رغم أن اللاعب الحالي ، لا يمت وراثيا ل ( بيليه ) أو (زيكو) بأي صلة ..

كان أهل القرى المجاورة ، وحتى المدن ، يستطيعون تمييز أفراد أهل العتيقة بسهولة ، لقد حصرتهم مهاراتهم وطبائع علاقاتهم مع محيطهم واللغة التي يستخدمونها في التعبير عما يقومون به ، بحيث كونت شخصيتهم الجماعية .

كان مأكلهم متشابها ، فهو يعتمد بالدرجة الأولى على الحبوب و منتجات الألبان و وبعض اللحوم والبيض والدجاج ، فيصنعون من القمح كل أصناف الطعام الرئيسية ، خبز وفطائر و طبيخ سميدة وطبيخ برغل و أذان الشائب و كبة وزقاريط و مقطعة وعصيدة ، وكلها منتجات من القمح ، مع إضافات بسيطة جدا بين واحدة و أخرى .. لم تكن الخضراوات معروفة .

كانوا لا يركزون على وجبة الغداء ، بل على العشاء ، فان تناولوا على الغداء بعض اللبن الرائب مع البيض أو دبس فكان هذا يكفي ، أما في المساء فكانوا يطبخون ( جريش البرغل أو السميد ) .. حيث يضعون قدرا من النحاس وبه ماءا ، وملحا و قمحا مجروشا ، قد يكون سلق في مرحلة سابقة وتم تنشيفه ، فصار يسمى ( برغل ) .. أو أنه لم يتم سلقه فيصبح ( سميدا ) .. ويضعونه على فوهة التنور ، ويتركونه مدة ساعة أو أكثر حتى ينضج و يصبح قوامه متماسكا ، فلا يعود يظهر منه ليونة نتيجة لتشرب الماء .. ويصبونه في قصعة واسعة ، وقد يضيفون عليه بعض (القفرة ) .. وهي إما من سمن الغنم أو البقر أو زيت زيتون ، مع قليل من البصل ويصبح اسم (الأكلة ) مختلفا .. أو يضيفون عليه اللبن المطبوخ وحده فتحمل الأكلة اسما جديدا ، أو يضعون فوقه فيما ندر إلا في الولائم والعزائم و قرى الأعراس اللحم , وعندها يصبح الأكل باسم جديد وهكذا ..

كانت كل الناس تأكل نفس الأكل ، ولم يكن هناك من يبيع اللبن أو يبيع السمن ، وكان الناس يرسلون اللبن واللحم والأكل لجيرانهم ، حتى لو عرفوا أنهم قد عملوا شبيها له ، ولم يعتذر من يرسل إليهم أنهم قد طبخوا نفس الطعام بل يقبلوه من جيرانهم ، ولا يعيدوا لهم الماعون فارغا ، فإنهم يعيدونه في اليوم الثاني مليئا ، بصنف طعام ، قد يكون نفسه ..

الفقراء من الناس ، لم يكن سهلا تمييزهم عن غيرهم ، فقد كان الناس يعطوهم قطعة من أرض ليزرعونها ، أو يعطونهم مجموعة من الأغنام ليستفيدون من لبنها ( منوحة ) .. لكن تبقى باسم أصحابها .. وعندما يستخرج الناس زكاة حبوبهم وهي ( العشر ) يعطون هؤلاء الفقراء منها ، ويتم إعطاء الأولوية للنساء الأرامل من الأقارب ، ومن ثم الجار الفقير ..

كان الفقير يأكل نفس أكل الميسور ، وكان يلبس نفس ملابس الميسور ، وكان يسكن في أمكنة مشابهة للتي يسكن فيها الميسور .. لكن تجد أنه إذا كان للميسور ثوبان ، فان الفقير ثوبا واحدا ، عندما يتسخ يغسله ويتوارى ريثما يجف ، وإن بيوت الفقراء تقل درجة في صبة أرضيتها ، أو شكل الباب إن كان محيطا بإطاره بعض الحجارة المنحوتة عند الموسر ، فإنها تكون من طين عند الفقير ، وهكذا تكاد الطبقية مفقودة في العتيقة ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس