عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 27-05-2011, 10:33 PM   #58
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

(53)

نجد مجموعة من الصور التي تتباعد أطرافها وعناصرها في الحسن إلى أقصى مدى ممكن من التباعد، ولكن الشاعر استطاع أن يقرب بينها وأن يكتشف علاقاتها الكامنة التي تتجاوز الحواس ، فيجمع بين "السأم" مثلاً –وهو معنى حسي مجرد- وبين حركة الثواء والإقامة المحسوسة الملموسة ،ثم بينه وبين "الأنفاس"- التي هي من خواص الكائنات الحية-وعن طريق هذا التقريب يشخص هذا السأم في صورة كائن حي يكاد يلمسه القارئ بحواسه ، ويفعل نحو ذلك بالليل الذي هو بدورنه معنى تجريدي- فيقرت بينه وبين حركة الجثوم- التي هي أيضًا من خواص الكائنات الحية-فيجسده ويجعل له أشباحًا تجري في أبهاء الصورة المهجورة ، وهكذا يمضي الشاعر على هذا النحو يجسد كل المعاني والمشاعر والخواطر المجردة التي يحسها في صورة حية مشخصة ، مما يعطي إحساسًا عميقًا لدى المتلقي بمدى قوة إحساس الشاعر بهذه المشاعر والأحاسيس حتى ليكاد يلمسها بيديه ، ويحس بأنفاسها تلفح في وجهه ، وهكذا يصبح البيت المهجور بفضل هذا التشخيص مسرحًا عجيبًا تجوس في أنحائه كل معاني الوحشة والخراب ،فالسأم ثاوٍ فيه يتردد صوت أنفاسه في أجوائه ،والليل منيخ جاثم –بكل ما يوحي به الفعلان من "أناخ" و"جثم" من رسوخ ثقيل –وأشباحه تعبث طليقة في الأبهاء،والبلى ذاته يتجسد حقيقة شاخصة أليمة ، بحيث نكاد نراه بأعيننا مع الشاعر ويداه تنسجان الخيوط العنكبوتية المقبضة ،والزمن أيضًا نكاد نسمع مع الشاعر وقع أقدامه الثقيلة في الممرات والوحشة خطاها الثقيلة تدب فوق السلم.
لقد استطاع الشاعر بهذا التجسيد البارع لهذه المعاني والأحاسيس التجريدية أن يجعلها شاخصة أمام الأبصار ،وأن يقوي في الوقت ذاته من فداحة الإحساس بالمفارقة الأليمة بين هذه الحال الكئيبة التي وصل إليها البيت وبين ما كان عليه قديمًا يوم كان عامرًا بالأحباء ويوم كانت أضواؤه تستقبل الشاعر محتفة باشة وتضحك له من بعيد.
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس