عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 26-05-2014, 01:21 PM   #9
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الأثقال المرحلة من جيل الى جيل



في عام 1997 توجهنا من جوهانسبيرغ في جنوب إفريقيا، صاحبي وأنا، نحو مابوتو عاصمة موزنبيق، وتوقفت الحافلة في نقطة الحدود بين البلدين، بسببنا نحو ساعتين، لأننا لم نكن نحمل معنا (ثوم)، وكانت عيون ركاب الحافلة تتوجه نحونا بغضب، بسبب جهلنا، فنحن لم نكن نعلم أن الرشوة التي تُعطى لرجال الحدود الموزمبيقية، هي بعض رؤوس من الثوم (كيلوغراما أو نحوه)، وكيف كان علينا أن نفهم؟! ونحن من الأردن، وبالكاد عرفنا اسم عاصمة موزنبيق للتو؟ ولولا حكمة بعض الركاب الذين تدبروا الأمر بالتبرع لنا أو للمرتشين برأس من الثوم من كل حصة راكب، لما انحلت الأمور.

هذا لمسافرين، في العصر الذي تمتلئ فيه الدنيا بالمعلومات على صفحات الكتب والإنترنت وغيره..

وكما أن من يريد أن يرحل من بيت قديم الى بيت جديد، سيتلف بعض حاجاته المتهرئة، ولا يأخذها معه، بل يأخذ ما يفيده، وكما أن من ينوي الحج يأخذ معه ما قد يحتاجه في سفره، فإن الأجيال ستنقل أفضل ما خبرته الأجيال التي سبقتها.

(1)

تتم كتابة التاريخ بطرق مختلفة، ولن تكون في النهاية صادقة 100%، فموقف المؤرخ من قضية ما سيلوي عنق الحقيقة عن مسارها، وشارحه أو قارئه سيلوي عنق ما قرأه عن مساره، وكلما بعدت المسافة الزمنية بين الحدث، وبين تاريخ الإطلاع عليه، كلما ارتجت الحقائق بشكل قد يربك تحكيم القراء ومن تخدمهم المعلومات في اتخاذ قرار.

في تاريخنا العربي الإسلامي، كان المسلمون الذين كانوا على مسافة قريبة من عهد رسول الله صلوات الله عليه، يؤمنون بأن الله هو الرب والخالق والمدبر والرازق وهو من استخلف (الإنسان) على الأرض وطالبه بتوخي العدل، ويؤمنون بأن رسله معصومون، وأن خاتم أولئك الرسل هو محمد عليه الصلاة والسلام، فكان أحدهم ينطلق الى أقصى الأرض لينشر الدعوة التي لم يكن يعلم منها إلا ما آمن به من كتاب الله وتوجيهات نبيه، فلم يكن بحاجة لتمحيص الحديث الصحيح من الحديث الضعيف، ولم يكن بحاجة للاطلاع على آلاف أو مئات الآلاف من الكتب في المذاهب الكثيرة والطعون والمماحكة التي ينطوي عليها الغلو هنا وهناك، كما هو في العهود التي تلت تلك الفترة وحتى عهدنا الحاضر.

كان المجتمع الذي أدير في العهود الأولى من الإسلام، ينعم بالعدل، رغم أنه كان متنوعاً ونسبة المسلمين فيه لم تبلغ الخمس من جميع أفراده حتى مرور قرنين من الزمان. وكان هذا المناخ المفعم بالعدل، جاذباً لكل المبدعين من علماء فلك ورياضيات وطب وفلسفة الى الساحة الإسلامية عن رضا كامل، انطلاقاً من قاعدة (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها أو أخذ منها)، فكان التطور الحضاري مرافقاً للدعوة الإسلامية لا مخاصماً لها.

(2)

لقد تربت الأجيال الأولى من السلف على قاعدة (الكمال لله عز وجل)، وأن ما دونه هم من البشر، فقد يخطئوا كما أنهم قد يصيبوا، وكلما اقترب أحدهم من الإيمان المطلق كلما قلت أخطاؤه، ولكنها لا تنعدم بأي حال، فمن عهد آدم عليه السلام والصفة موجودة (للابتلاء). {وعصى آدم ربه فغوى} [طه 121]. ونوح عليه السلام{قال ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم}[هود47]. وموسى عليه السلام {قال ربِّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي}[القصص 16]. ويونس ويوسف عليهما السلام، وحتى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم{عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم} [التوبة 49] و{عبس وتولى}[عبس1].

وإن حال الرسل، كما أورده الله تعالى في كتابه الكريم، أنهم قد يقعوا في الخطأ، فإن الصحابة رضوان الله عليهم والذين هم ـ بالتأكيد ـ أقل شأناً من الرسل قد يقعون بالخطأ، فتأخر علي بن أبي طالب ستة أشهر حتى بايع أبا بكر الصديق رضوان الله عليهما، تعتبر من الأخطاء، وتعيين عثمان بن عفان لمجموعة من أقاربه ولاة في الأمصار يعتبر من الأخطاء.

لكن لا يجوز لنا أن نقلل من شأن أي صحابي، ففضلهم قائم حتى تقوم الساعة، طالما يعتنق الإسلام وافد جديد أو قديم، فهم من وقف مع الرسول صلوات الله عليه حتى قام هذا الدين.

(3)



أما نقاط الخلاف والاختلاف التي قد تكون قضايا ساخنة لمن عايشها، ليس من الضروري الإصرار على إثارتها في كل جيل، لأنها ستعطل بشكل أو بآخر عملية إحداث توافق اجتماعي، وحشد الطاقات للنهوض بالمجتمع اقتصاديا وعلميا وفكريا وسياسيا.

هذا ما يحدث في قراءة التاريخ العربي الإسلامي، فبالرغم من وضوح كتاب الله عز وجل، ورغم وضوح أحاديث رسول الله صلوات الله عليه، والتي وصلتنا هي والقرآن الكريم بلغة، يفترض أننا نفهم التعامل معها بوعي، فإن انتقاء بعض القصص، وتأويل ما تم تأويله على يد المؤرخين والمحللين، سيضعف متانة وحدة المسلمين، وسيفتح الباب أمام من يريد أن يكفر غيره، أو يعظم من شأن فرد (صحابي، أو سياسي من مذهبٍ ما).

(4)

ورغم أن الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا يختلفوا سياسياً، لكنهم كانوا على خُلق وإيمان ولا يُجرِّح بعضهم البعض الآخر، وسنضرب مثلاً للعبرة. لمّا خرجت أم المؤمنين (عائشة) وطلحة والزبير رضوان الله عليهم جميعاً، قاصدين البصرة لملاقاة علي ابن أبي طالب رضوان الله عليه، أرسل لهم الصحابي عمار ابن ياسر وابنه الحسن بن علي.. فخطب عمار ابن ياسر قائلاً: ((إني لأعلم أن عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها))*1

ولما انتهت موقعة الجمل خاطبها ياسر فقال: ((ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عُهد عليكم، يشير الى قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} [الأحزاب33]. فقالت: ((أبا اليقظان؟ فقال: نعم. قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحق. قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك))*2

وهذه المعركة التي اشترك فيها 50ألف مقاتل من الطرفين، وكان بطرف علي ابن أبي طالب (عبد الله ابن العباس ـ حبر الأمة ـ ومحمد ابن أبي بكر شقيق عائشة)، و في طرف أم المؤمنين طلحة والزبير اللذان سقطا قتيلين في تلك المعركة) وراح ضحية المعركة نحو 18 ألف قتيل.. فمن نحن حتى نخطئ هذا الكم الهائل من الصحابة، أو نصطف في هذا الزمان مع طرف ضد طرف، مردهم الى الله عز وجل فيحكم بينهم.

أما ما يهمنا في تلك القصة والحوار الذي دار بين أقطاب الطرفين، هو الصورة الورعة الصادقة التي قال عنها الحافظ ابن الجوزي البغدادي، المتوفى 597هـ بأنها أروع ما نُقل عن السلف الصالح من مشاعر إيمانية صادقة، يتوجب الاحتذاء بها لوقف نكء جراح الماضي*3

(5)


معلوم أن معظم الحركات الإسلامية السياسية في المنطقة يرجع أصولها الى القرن الثالث الهجري، أي الى فترة ابن حنبل في الفقه ومذهب الأشعري في أصول الدين، ومعلوم أن فكر ابن حنبل يتسم بالمحافظة وإغلاق باب الاجتهاد، أما مذهب الأشعري فصفته المماحكة والتعويل على النقل والأثر لا العقل والنظر إلا في نطاق المنقول. وما يعنينا أن توجهه السياسي يجعل من الخليفة (ظل الله على الأرض) تجب طاعته حتى ولو ظلم، تأسيسا على تفسير الآية الكريمة {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}، وعلى الصعيد الاجتماعي، كان فكره يبرر للطبقة الحاكمة المستأثرة بالأرض والمال، لأن المال مال الله يتملكه الحاكم (ظل الله في الأرض) ويتصرف فيه كيف يشاء.

ولا غرابة أن يصبح هذا المنحى بمثابة إطار أيديولوجي في مواجهة الأيديولوجيات المعارضة ك (المعتزلة) أي أهل العقل والنظر، والشيعة الإسماعيلية التي تبنت مبدأ العدالة الاجتماعية. والخلاصة أن الفكر السياسي السني ـ آنذاك ـ كان يشكل النمط الإقطاعي في الإنتاج، في حين عبر فكر المعارضة عن برجوازية جنينية فتية لينتهي الصراع لصالح القوى الإقطاعية السلطوية.

ولا زال المتنطعون لتلك القضايا، يعتبرون أنفسهم شجعان صناديد في الدفاع عن أشخاص، ولكن دون عدل في القراءة والتحليل ...
سأل الإسكندر حكماء بابل: أيهما أبلغ لديكم: العدل أم الشجاعة؟
أجابوا: إذا استخدمنا العدل، استغنينا عن الشجاعة.





هوامش
*1ـ البخاري: التاريخ الصغير 1/83؛ نعيم ابن حماد: كتاب الفتن1/86
*2ـ فتح الباري:13/59
*3ـ صيد الخاطر ص89.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس