الموضوع: شقاء السعادة
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 06-12-2009, 10:53 AM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(4)

قطع عكرمة برنامجه اليومي في اللعب مع أترابه في الحي، رغم أن الجو لا زال صحوا وبرده ليس بقارصٍ، وقفل راجعاً يركض بأقصى سرعته متجهاً نحو والده (أبو صابر)، الذي كان مستلقياً على ظهره وقد غطى أوسط بطنه بجزء من رداءه الثقيل، في حين كانت ركبته اليسرى أعلى من مستوى رأسه، كونه قد كف قدمه اليسرى باتجاهه، وأردف ساقه اليمنى فوق جزء من أعلى الفخذ الأيسر، لم يكن أحد تمارين (اليوغا) بل هي إحدى الطرق التي كان كبار السن يبتكرونها لتمضية أوقات فراغهم الكثيرة. كان أبو صابر يراقب أصابع قدمه اليمنى التي كان يحركها بالتناوب وكأنه يقوم بتفقد صلاحيتها.

كان عكرمة ابن العشر سنوات أو أكثر قليلاً، لا يزال يلهث من ركضه، يرتدي سروالا خارجياً من المخمل المضلع وقد زالت بعض نتوءات الأضلاع وزال منها لونها الزيتي، وتنافرت الخيوط بعض الشيء من جهة الركبتين، منذرة بانتهاء العمر فوق الافتراضي للسروال، وكانت رؤوس أصابع قدميه تنزف دماً قليلاً متخثراً من كثرة ما يصطدم بالحجارة التي في طريقه.

بادره والده (علامك؟) أي ما بك؟
أجاب الولد بصوت مرتبك: رأيت رجلاً أكبر منك يضع عصبة خضراء على رأسه، ويتزر بإزارٍ ثخين فوق ثوب سميك ويحمل عصا غليظة وطويلة أعلاها منحني نحو ساقها..
قاطعه والده: إنه أبو المَرَاشد .. ماذا فعل؟
ـ بعد أن تطلع بالسماء نحو الغرب، ضرب بعصاه الأرض عدة مرات وصاح: (كسبها .. كسبها .. كسبها من زرع عفير وبَدَرْ).
ومعنى ذلك الذي لم يفهمه الصبي، أنه أفلح من زرع أرضه مبكراً.

استند أبو صابر، وعدل من جلسته، وأخذ يُعالج الرماد الذي في الموقد، وطلب من ابنه أن ينادي أمه لتحضر بعض الوقود للموقد لتسخين القهوة.

(5)

كان أبو المراشد من الأشخاص الذين قليلاً ما يشتركوا بحديث مع الآخرين، وكان الناس ينظرون إليه بمشاعر ممزوجة بالحيرة والإعجاب والاحترام والعطف.

لم يكن درويشاً بمعنى الكلمة، ولكنه لم يقطع فرضاً واحداً في مسجد البلدة الوحيد، ولم يسمع عنه الناس أنه أثار مشكلة مع أحد، حتى جيرانه لم يسمعوا أن خلافاً حدث داخل بيته، رغم أنه كان متزوجاً من أربعة نساء، وله من الأولاد الذكور أربعة عشر ولداً، غير البنات الستة.

(6)

انشغلت أم صابر بتحضير العشاء، وانشغالها كان رتيباً، فالوجبة المعتادة للعشاء هي (جريش) القمح، الذي سبق سلقه وتم تنشيفه ليحمل اسما جديدا (البرغل)، وكان يُحفظ بعد جرشه في (كَوَايِرْ)، تنتصب في (بيت العِيلة)، حيث تحتفظ العائلة بمئونتها فيه، داخل كواير وجِرار وبعض الجلود التي تُخصص لحفظ السمن.

كانت (الكوارة) تُبنى على مراحل، من الطين المخمر الممزوج بالتبن، فبعد أن تحضر المرأة الطين، تختار ضلعاً من أضلاع الغرفة (بيت العيلة)، لتبني بجانبه الكواير، فبعد أن تصنع (دكة أو مصطبة) بارتفاع أقل من قدم قليلاً لتنصب فوقه الكواير، تقوم بعمل مربعات فوق المصطبة طول ضلع المربع حوالي ذراع، وتعين مكان فتحات استخراج المواد المخزونة من الأسفل، تقوم برص الطين بيديها الاثنتين بسماكة أصبعين تقريباً، وحتى لا تنحني تلك المواد تتركها لمدة يوم أو اثنين حتى تجف قليلاً، ثم تكمل بناء الكواير حتى يبلغ ارتفاعها ارتفاع رأس المرأة تقريباً، ثم تترك فتحتها العلوية دون بناء، بل يتم تغطيتها بطبق من القش المحبوك لمنع دخول الفئران.

لم تكن وجبة العشاء، سوى برغل وماء وملح، كانت توضع في قدر من النحاس، وتترك على فوهة (الفرن الطيني) لتنضج على مهل. وبعد صلاة المغرب، تقوم أم صابر بسكب الطعام في قصعة واسعة، وتضيف إليه بعض الدهون المسخنة والتي غالبا ما تكون من (سنام الجمل) أو زيت الزيتون المقلي به قليل من البصل.

(7)

لم يمض وقت كبير، حتى انهمر المطر بغزارة، فضحكت الأرض ومن عليها في البلدة استبشاراً للخير، وارتفع صوت أذان المغرب، من على أعلى المئذنة وبصوت أبي صابر نفسه، وكان صوتاً قوياً على غير العادة، ولم يكن هناك ضجيجٌ يمنع وصول الصوت الى مسافة تتعدى حدود البلدة.

عاد أبو صابر ولحيته يقطر الماء منها، وأسنانه الصناعية تضحك متوسطة لحيته البيضاء ووجهه النحاسي، تناول طعامه بنهم، هو وأفراد أسرته، وأمر صابر أن يذهب الى احمد الرشيد البقال في الحي ليحضر (الهريسة) ليتحلى هو وأفراد أسرته ومن سيأتي لقضاء السهرة القصيرة.

يتبع
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس