عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-09-2009, 01:28 PM   #44
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

30ـ حقوق كاملة وواجبات منقوصة


قد يُغري بعض الطبائع الطموحة للترشيح لانتخابات الرئاسة، أو تسلق قمة جبل إيفرست. غير أن ثمة مجالاً أوسع في الحياة المعاصرة يوفر إرضاء أكبر للرغبة في نيل الاعتراف. هذا المجال هو الجماعة، أي الحياة داخل الروابط الاجتماعية التي هي دون مستوى الأمة.

(1)

أكد كل من (توكفيل) و (هيجل) أهمية حياة الروابط الاجتماعية باعتبارها بؤرة للعمل من أجل الصالح العام في الدولة الحديثة. ففي الدول القومية الحديثة الضخمة، تقتصر مواطنة الجماهير الغفيرة من الناس على انتخاب ممثلين لهم كل بضع سنوات. أما الحكومة فبعيدة ولها صفة الشخصية الاعتبارية داخل نظام يقتصر أعضاؤه المباشرين المشاركين في العملية السياسية على المرشحين للمناصب، وربما أيضا معاونيهم في الحملة الانتخابية وكتاب الأعمدة والمقالات الافتتاحية في الصحف، ممن يجعلون من السياسة مهنة لهم.

هذا النمط من المواطنة، لم تكن تقره وترضى به الجمهوريات القديمة الصغيرة (أثينا، إسبارطة، روما الخ). ولكن مشاركة المواطنين في العصور الحديثة تم تعزيزه بانتماءات مختلفة ومتعددة تعوض غيابه عن الحياة العامة، وهذه الانتماءات قد تكون لنقابة مهنية أو جمعية خيرية أو رابطة ثقافية أو ناد رياضي أو حزب سياسي الخ. وهذا ما يطلق عليه المجتمع المدني.

(2)

إن حياة الروابط الاجتماعية الخاصة توفر إشباعاً مباشراً أكبر بكثير مما توفره مجرد المواطنة في ديمقراطية حديثة كبيرة. صحيح أن اعتراف الدولة بالفرد ومواطنته بإعطائه بطاقة شخصية أو جنسية أو إقامة أو ترخيص لعمله وسيارته وبناءه هي من الأمور الهامة والضرورية والتي لا يمكن الاستغناء عنها، لكن يكون لاعتراف الجماعة بالشخص المنتمي لها ضمن حدود الإطار الأضيق من الدولة هو الآخر له أهمية استثنائية تتفوق أحيانا كثيرة على اعتراف الدولة.

والاعتراف بالفرد من الجماعة يقوم على مجموعة ضخمة من الصفات المعينة التي تشكل في مجموعها كيان ذلك الفرد. ويمكن للشخص أن يشعر يوميا بالفخر بعضويته في اتحاد مناضل، أو جماعة دينية، أو جمعية لمكافحة المخدرات والرذيلة، الخ.

غير أنه إن كانت حياة الجماعة القوية هي كما يقول (توكفيل) أفضل ضمان توفره الديمقراطية، يحول دون أن يصبح المواطن فيها خاتم البشر، فإنها مهددة دوما في المجتمعات المعاصرة. فما يهدد احتمال قيام جماعة ذات مغزى ليست قوة خارج الجماعة، وإنما تهددها تلك المبادئ ذاتها من الحرية والمساواة التي تقوم الجماعة عليها، والتي تشيع الآن في جميع أنحاء العالم.

(3)

يشير (فوكوياما) الى الصيغة (الأنجلوسكسونية) للنظرية الليبرالية والتي تشمل (الولايات المتحدة الأمريكية، الى أن للناس حقوقاً كاملة تجاه مجتمعاتهم لكن ليس عليهم واجبات كاملة تجاهها. فواجباتهم منقوصة لأنها منبثقة عن حقوقهم، والأصل أكبر من الفرع، والجماعة مطلوب منها ضمان حقوق أفرادها، والجانب الأخلاقي تعاقدي محض. فهو ليس مفروضاً من الله، ولا من الخوف من الطبيعة، وإنما يفرضه الصالح الشخصي للمتعاقد في التزام الآخرين بتنفيذ العقد.

كذلك فإن مبدأ المساواة الديمقراطي في الجماعات سيضعف على المدى البعيد. فإن كانت أقوى الجماعات يربط بين أفرادها قوانين أخلاقية تعرف لأفرادها الحق والباطل، فإن نفس هذه القوانين الأخلاقية تحدد أيضا باطن الجماعة وظاهرها. وإذا أردنا أن يصبح لتلك القوانين الأخلاقية أي معنى على الإطلاق، فلا بد أن يكون للمستبعدين من الجماعة بسبب عزوفهم عن قبول تلك القوانين، قيمة مختلفة أو مكانة أخلاقية مختلفة عن سائر أفراد الجماعة.

لذلك فإن المجتمعات الديمقراطية الكبيرة تميل الى الانتقال من التسامح المحض لكل أساليب العيش البديلة، الى تأكيد مفهوم المساواة الجوهرية الخاص بها، ومقاومة الأخلاقيات التي تنتقص من قدر وسلامة بدائل معينة. أي باختصار هي ضد الاستبعاد التي تلجأ إليه الجماعات القوية المتلاحمة.

(4)

والواضح أن الجماعات التي لا يربط بين أفرادها سوى الصالح الشخصي، تشوبها نقاط ضعف معينة مقارنة بتلك التي تربط بين أفرادها التزامات مطلقة.

يبدو أن فوكوياما، يحاول الوصول الى المقارنة بين المجتمعات الطبيعية (أسرة، عشيرة، أبناء قرية، أو وادي الخ)، مع المجتمعات الاصطناعية التي ينتمي إليها العضو طوعا، ويخرج منها متى أراد (حزب، نادي، جمعية الخ).

لا ينظر الأمريكيون الى العائلة (والتي لم تعد كبيرة الآن) على أنها ستكون عائقاً أمام الديمقراطيات الكبيرة، وقد كانت العائلات التي تسكن ضواحي المدن الأمريكية في الخمسينات من القرن الماضي محتقرة، كونها تحتكم الى نظم أخلاقية غير ملائمة للانخراط في الحياة الليبرالية المنشودة.

وينظر الليبراليون الأمريكان، الى أن نجاح الزواج وديمومة العائلة والنجاح في تربية الأطفال، أمر يتطلب تضحيات عالية، إذا تم النظر إليها منطقيا، فإنها لا تعود بالربح على هؤلاء المضحين!

(5)

أحدث الارتباك بين قبول فكرة أن التضحية من أجل الوطن (والتي يتبناها الليبراليون) والتي يقدمونها على التضحية من أجل الأسرة أو الجماعة الضيقة، وبين المدافعين عن الملكية الفردية واستقرار الأسرة، والقائلين أن ذلك سيعود بالنفع على الوطن. كل ذلك أحدث تطويرا أيديولوجياً على تفقيه النظرية الليبرالية.

وقد ساهمت الضغوط الرأسمالية في السوق، والتي قوامها ـ أصلا ـ عدم تعزيز المجتمعات التقليدية، وبث الفرقة بين الأفراد وإبعاد بعضهم عن بعض، في جعل فكرة الليبرالية الديمقراطية الحديثة بحاجة الى نجدة (ميتافيزيقية)، وقد بدت ملامح هذا النمط من التفكير من أيام (ابراهام لينكولن) في تأكيد أن الحرية تتطلب الإيمان بالله.

لقد ظهر لينكولن بعد (جفرسون و فرانكلين) الذين كانوا من الليبراليين المؤمنين بأفكار (لوك). وقد حاولت الإدارات الأمريكية التوفيق بين النظرتين، فهي أحيانا تبدو متسامحة مع الملحدين والمخنثين (الزواج المثلي) وأحياناً تبدو وكأنها قيادات دينية مكلفة من السماء لحماية المسيحية (بوش ونمطه).

وهذا التذبذب في هذا الواسع من المتناقضات، يدلل على عدم قدرة الديمقراطية الليبرالية على حل كل المشكلات التي تبذر بذورها هي نفسها.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس