عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 10-09-2010, 12:14 PM   #3
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

عينها كانـت عيونـي مثلمـا
راؤها في الجسم روحاً مودعهْ
لهذا البيت الجميل نغم خاص في النفس خاصة أن الشاعر قد عمد إلى أسلوب من أساليب التجريد وهو تشبيه اللامرئيات ببعضها البعض وهو أسلوب يحتاج إلى دقة في التعامل مع المفردة وكيفية توظيفها ، ليغدو لنا عالم من المحسوسات غير المرئية يواقعها الشاعر وليترك لنا تصور حركتها الهيولية وذلك في الشطر الثاني رؤاها في الجسم روحًا مودعة ، فكما لا نرى الروح إلا أننا نشعر بها وبدونها تفتقد الحياة ، فإننا بنفس الطريقة نلاحظ توغل هذه الرؤى في ذات الشاعر الذي يصف ويشبه توحده بدولته وانطباق عينه على عيونها بالروح المودعة في الجسم .وكانت هذه التركيبات ذات صبغة إنسانية مجردة تقترب قليلاً من المنحى الصوفي من خلال تعبيرات العين ،الرؤى والروح والجسم خاصة أن للصوفية تأويلات للعين غير الإبصار تتعلق بالعمق الوجداني.

ألفهـا أوردةٌ قـد فجّـرت
نهرَ أسمـاءٍ وكانـت منبعـهْ
ربما يكون في البيت مأخذ وهو نهر أسماء مع الإشارة إلى أن أسماء لا تعني الجانب الشكلي والكتابي وإنما تتعداه إلى الجانب الحضاري والمنجز التاريخي وكذلك كانت منبعه أشعر بأنها جاءت لإكمال عجز البيت .هذه رؤيتي القابلة للإبطال
قافها الإعجـازُ لمّـا بصمـة ً
بابلً أبـدت فكانـت إصبعـهْ
هناك تقبيل الرؤى رؤى الأرض ثم هناك ما يوازي ذلك في بصمة الإعجاز ، أفعال التلامس كانت ذات دلالة قوية في البيت ، قافها أي صار قافية لها أو سار مقتفيًا أثرها ، والبيت على ما فيه من إيهام التعقيد يجعل الإعجاز بصمة لبابل ، لننتقل إلى مستوى التشبيه العكسي والذي ينقلب فيه الوضع من المشبه والمشبه به للمبالغة ، وكان تكامل البيئة التشبيهية من حيث الأصبع والبصمة عنصرًا جيدًا في تكوين البيت وكان التشخيص فيه في صالح العمل إذ تكون بابل إنسانًا له يد والإعجاز بصمتها . باختصار : في البيت هذا تركيب لعناصر التشبيه والمجاز كما أن فكرة الأصابع والبصمات ترتبط بشكل أو آخر بعلم الحفريات مما يجعل الصورة الذهنية للآثار أكثر انطباقًا وبقاء في الذهن حتى كأن الكون رمل وبصمة بابل هي الأبرز عليه لا تكاد تخطئها العيو ن.
ألبسُ الحرفَ نهارا والتجلـي
في قيودِ السطرِ تكوى أضلعـهْ
الصورة الشعرية تعود مركبة مرة أخرى من خلال لبس الحرف نهارًا ، ليكون البيت محتشدًا بصور جميلة رائعة التأثير في الوجدان إذ تتخذ علاقة الدال بالمدلول شكلاً عكسيًا ويصبح النهار كقفاز يُلبس لماذا ؟ لأن المحيط به هو الأعظم والأكبر منه ..إنه العراق العظيم ثم نأتي إلى تعبير التجلي وهو من تعبيرات الصوفية المنتشرة بشدة ، يأتي التجلي في هذه الصورة مقيدًا في السطر مكوي الأضلع ، وتبدو حالة المفارقة العنيفة من خلال هذا النهار (التائه) عن التجلي. وهذه الصورة الحركية للصبح المقيد في لقطة والنهار التائه في لقطة أخرى تجسم قدرة عبقرية على تحول مرئيات الحياة إلى مادة قابلة للشعور والتفاعل الإنساني ،بشكل يبعد عن مجرد إلباس الآدمي لبسة الأشياء أو أنسنة الأشياء لتخرج صور راقية الرؤية ثاقبة الفكرة تصنع من غير الإنسان عالمًا ومشاعر لا متناهية تعتمد على التصوير والتخيل ، فالتجلي وهو مقصود به تجلي الاستقلال ما زال في قيود السطر ، وليس يكفي أن يكون هذا النهار مقيدًا بل ومكتوي الأضلاع وتكمن مرارة السخرية في أن يكون هذا التجلي مقيدًا في (أسطر) بما تتحمله من تأويلات كالمعاهدات المكتوبة أو الأسماء الخائنة التي تحتل صفحة العراق ..
أكْسَب الشعرُ نزيفـي زرقـة ً
أعطت المعنى جهاتـٍ أربعـه
أعظم به من بيت وأكرِم به من قائل !إذ نكون أمام صورة فانتازية بكون النزيف يتحول إلى سماء كأن السماء تجري في أورد ةالشاعر لماذا ؟ هذا هو مربط الفرس ، لأن الشعر هو عالمه الذي يقترن به ويعد بالنسبة لديه ملهمًا إضافيًا أو جنًا خارقًا يفعل ما يعجز البشر عنه- . وهذا التركيب في الصورة وما يعبر عنه من طاقة شعرية جبارة هو دليل على عبقرية الشعر العمودي وقدرته على استيعاب المتغيرات الزمنية والتطورات المجتمعية ..إلخ ولا يكتفي شاعرنا المبدع بهذه الصور بل ويصبح للمعنى جهات أربع ويبدو أن النحو خانه لأن الأرقام من 3-9 تخالف المعدود في التذكير والتأنيث فكلمة جهة معدوها أربع وليس أربعة اللهم إلا ضرورة شعرية . الجميل في هذا البيت العبقري أن يكون المعنى متعددًا فالمعنى هو -يحتمل- أن يكون العراق وربما يكون الإنسان وربما الحرية التي استلبها المجرمون واتساع الدلالة في هذا البيت عنصر قوة يجعل للمعاني والحياة فلسفة أبعد من كونها مجرد أيام تمضي وساعات تمر ..
تحملُ الانسـان للشـكِ يقينـا
للنبـؤاتِ وأمـس ٍ ضيـعـهْ
بعد ذلك يظل الشاعر ملازمًا على علاقة بصديقه العزيز الشعر إذ حروفه تصنع ذلك بناء اليقين وتبديد الشكوك ،ليكون مقاومًا للزمن (الأمس) وليكون الشعر هو الغد المنتظر والشعر كذلك يتسع في هذا البيت ليكون الوطن -الحب -الأمل ..وهذا من جماليات العمل الأدبي
ولهذا أُ حر ِقَ العمرُ شموعـا

حيثمـا حـلَّ ظـلامٌ تدفعـهْ
الله ! ما أجمله من ختام ! إن الشاعر يحرق العمر شموعًا شعرًا ليقاوم به الظلام الثاوي على أرضه ويتضطر الشاعر في النهاية لإشراك نفسه في القصيدة من خلال الفعل (أحرِق) ليكون ختام المشهد المبدوء بالبحر والزورق هو هذا الشمع الذي يحرق العمر ويلهب النفس ويرهق الفؤاد على انتظار أن ينتهي الظلام في يوم ما ..كأن القصيدة ابتدأت من النهاية :الاسترجاع flash back ، كأنما شاعرنا العزيز جاء بصورة الزورق والتي هي في النهاية ليحكي لنا قصتها أن هذه الأشرعة لم تظهر في البحر إلا بعد أن احترقت شموع العمر من أجل القضية لتتفاعل الأرض مع الإنسان وتستجاب دعواته بالأشرعة التي تحكي عن حديث الشاعر ومعاناته اللذيذة .عمل أقل ما يقال عنه أنه أسطوري وينتظر فقط من يأتي ليضعه فنارًا على ساحل الرافدين الأبي ، وكل عام أنتم بخير دمت مبدعًا وفقك الله .
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار





آخر تعديل بواسطة المشرقي الإسلامي ، 11-09-2010 الساعة 12:23 PM.
المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس